بقلم: أمين الزاوي – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- انتخب أو لا تنتخب، فهناك دائماً آخر يختار بديلاً عنك! يحدث هذا في جميع البلدان العربية وشمال أفريقيا منذ الاستقلالات الوطنية.
في الانتخابات نكذب ونصدق الكذبة. الأزمة ثقافية أساساً، مفصلية وحضارية يعيشها الفرد والمجموعة على السواء، في القرى والمداشر والمدن.
لذلك وحتى نؤسس لانتخابات صادقة متماشية مع قيم المواطنة والمعاصرة، علينا إعادة النظر في علاقة الفرد والمجموعة بأمور أساسية ثلاثة: الثقافة والتاريخ والدين.
منذ أولى انتخابات في تاريخ الجزائر المستقلة، أي منذ 1962، يعيش المواطن البسيط في ما يشبه المسرحية الكوميدية الدرامية، تارة هو ممثل فيها، وتارة متفرج غارق في شخيره وسط ظلمة قاعة العرض، وتارة هو موضوع المسرحية الساخرة.
الانتخابات ليست ورقة يجري وضعها في صندوق اقتراع لا قاع له ولا شكل، الانتخابات ليست ابتسامة قردية توحي باكتفاء ورضا ذاتيين كبيرين يبعث بها الناخب الكبير رئيس القبيلة أو الأسرة أو الحزب لكاميرا قناة غامضة. الانتخاب عملية معقدة ومركبة. قرار، وعي وحرية مؤسسة على احترام المواطنة.
المواطن الناخبُ ليس بطاقة أو رقماً في حساب المجموعة، أو يداً للتصفيق لحزب سقط مع آخر الأمطار السياسية أو لممثل قبيلة أو عرش، المواطن الناخِب هو صانع قرار تاريخي.
الناخب ليس بطاقة ولا غنيمة حرب داحس والغبراء المعاصرة! والمواطن الممتنع، في موقف “الامتناع السياسي” هذا هو منتج لفعل سياسي حضاري مفكر فيه، وازن وموزون. إن الامتناع عن التصويت ليست فرصة للتمتع بنعمة نوم الصباح المتأخر la grâce matinée، الامتناع الانتخابي المسؤول هو صمت صارخ واضح. الامتناع هو حضور بالرفض. الامتناع جبهة سياسية واعية بدورها، وهي بديل للحضور والمشاركة.
أعتقد أنه، ما لم يحل الجزائري مشكلته مع ثلاثة عوامل أساسية في حياته، تلك التي تشكل إما بيت حريته أو بيت الطاعة لديه أو بيت الاغتراب والضياع وأعني بها: التاريخ والدين والثقافة، فهذا الجزائري لن يتوصل يوماً لأن يكون مواطناً ناخباً، بل سيظل رهينة المراوغات الأيديولوجية والدينية المستمرة.
لا وجود لعملية انتخابية تحريرية وتمثيلية في ظل غياب “فلسفة المواطنة” كمشروع سياسي عليه وفيه وله تقوم المنافسة الانتخابية. المنافسة الانتخابية المعاصرة ليست عملية عروشية أو سلالية أو إلهية.
في مجتمعاتنا العربية والشمال أفريقية يتموقع المواطن ما بين المطرقة والسندان، بين الديني والوطنياتية المزكومة، النتائج التي تفرزها أية انتخابات هي معروفة ومحسومة مسبقاً، موزعة بين حاملي الخطاب الديني المتدروش ومروجي الخطاب المنبهر بالتاريخ بمفهومه الفروسي والمنتشي بأنصاف الانتصارات الماضوية. إن المقاربتين الدينية والوطنية الانبهارية متشابهتان. وكلاهما تصب في ما يسمى بالتقديس أو التخوين أو الشيطنة.
وفي واقع الأمر، ومن منظور فلسفي، فالمقاربتان في جوهرهما دينيتان لاهوتيتان. ومن هذا المنطلق فالمنتخِبون والمنتخَبون يؤدون أدواراً في مسرحية كتبت على مقاس وعيهم، أكانوا على وعي بها أم بشكل ساذج يلعبون فيها.
في الجزائر، يجري الحال على البلدان العربية والشمال أفريقية، كل من أراد التأثير في المواطن البسيط كي يربح صوته ما عليه سوى استعمال الخطاب الديني أو الخطاب الوطنياتي المشحون بالعداء للاستعمار التقليدي، استعمار القرنين 19 و20. يُستعمل الخطابان الديني الشعبوي والوطنياتي المنبهر بإنجازات الذات الماضوية من أجل صيد عدد أكبر من المغفلين والمواطنين البسطاء الواقعين تحت هيمنة الضياع السياسي والديني. اشحن خطابك السياسي بجمل دينية فستربح. املأ خطابك الدعائي بجمل عن “الثورة” و”التحرير” و”الشهداء” فستكسب!
وكما في كل موعد انتخابي، أتغيرت أسماء أصحاب القرار أم هم أنفسهم، الحال هي الحال منذ الاستقلال، الخطابات السياسية تتشابه وتتكرر، الممثلون يتوالون، الواحد بعد الآخر، على خشبة المسرح لأداء أدوار في مسرحية هزلية، لكنها درامية. المسرحية الكوميدية المأساوية التي لا تنتهي، فصولها مستمرة بعمر الكذب.
في السياسة الكذب حبله طويل! مشاهدو المسرحية وجمهورها ينتخبون إما على الله أو على من هو ظل الله على الأرض للجلوس في مقعد البرلمان، أو ينتخبون على مزيفي الثورة ومزيفي تاريخ الثورة.
في غياب الثقافة التي تحرر، الثقافة الإبداعية، كقاسم مشترك بين المواطنين على اختلافهم لا يمكننا تصور انتخابات حضارية، الثقافة التحريرية، ثقافة الحرية، هي الطريق إلى التنافس السياسي الإيجابي، المجتمع الذي لا يعرف فيه المواطن قاعات عروض السينما لا يمكنه أن ينتخب صحيحاً وحراً، المجتمع الذي لا يتردد فيه المواطن على قاعات المسرح لا يمكنه أن يتولى الدفاع عن حريته بوعي كامل، المواطن الذي لم يقرأ في حياته رواية لا يمكنه أن يتصور مستقبلاً، مستقبله أو مستقبل البلد، بعيداً من كليشيهات خطابات “مهرجي” السياسة. المجتمع الذي تغيب فيه ثقافة “الفن التشكيلي” حيث المواطن كما رئيس الحزب لا يعرف معنى “اللوحة” الفنية، هذا المجتمع بهذا المواطن وبهذا الرئيس لا يمكنه أن يدرك معنى “صندوق” الاقتراع.
لذا، نحن ندور في فراغ منذ الاستقلال، ولا نزال ندور ونضحك من أنفسنا تارة ونبكي لأجلها تارة، وثالثة نغضب فنخرج في تظاهرة أو حراك، ثم يجري احتواؤه للعودة ثانية إلى نقطة البدء، حيث لا بدء ولا وسط ولا نهاية. إنها لعنة سيزيف على مجتمع أو على بلد!
المدرسة التي تغسل أدمغة الأجيال، جيلاً بعد جيل، لتصنع من أطفالنا “طالبان” الغد، هذه المدرسة لا يمكنها أن تُعَلِّم معنى “الانتخاب”، لأن الانتخاب هو عملية مدنية دنيوية في حين هذه المدرسة تدافع عن مشروع الدولة اللاهوتية المتعصبة. أن تنتخب معناه أن تشعر بزمنك، بمدنيتك، بحريتك، وأن تجعل الآخر يشعر بذلك أيضاً وهو خصمك.
كيف يمكننا أن نقيم انتخابات سياسية حضارية تُكَرِّس قيم الحرية والاختلاف، والجامعة تواصل بكثير من التآمر “العلمي المشبوه” تشويه التاريخ الوطني، هذا التشويه الذي ينتج ويعيد إنتاج الاغتراب الهوياتي أو ما يسمى بـ “قلق الهوية” أو “جرح الهوية”. هذه الجامعة، وعلى وتيرة المدرسة، وبتنسيق معها، تمارس صناعة إنسان مضطرب الهوية.
إن البلد الذي لا يعترف بتاريخه العميق، المجتمع الذي لا يعرف خفايا تاريخه العريق، هذا المجتمع لا يمكنه أن يصنع مستقبله التنويري.