بقلم: محمد خلفان الصوافي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- ليس سرّا أن العراق يشهد منذ تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء، ثورة حقيقية على الأوضاع الداخلية المتردية في كل المجالات. غير أن نجاح الكاظمي حتى الآن في تحريك المياه الراكدة وحلحلة الكثير من عقد الداخل العراقي، له أسرار ومفاتيح مهمّة ربما بعضها غير ظاهر على سطح الأحداث.
يمكن العثور على أول تلك المفاتيح، إذا تذكرنا أن الكاظمي ليس أول رئيس حكومة يحاول السير جدّيا باتجاه تحسين أوضاع العراقيين واستنهاض قدرات الدولة العراقية. غير أن تلك المحاولات لم تحظ بظهير شعبي داعم، خصوصا في ظل طغيان الملفات السياسية والاستحقاقات الإقليمية المتلاحقة على حساب متطلبات التنمية والاقتصاد واحتياجات المواطنين. وكانت التبعات الاقتصادية لأزمة كوفيد – 19 من القسوة بما يكفي لكشف كل العورات وفرض استحقاقات التنمية وتلبية المطالب على رأس الأولويات. فازداد الضغط الشعبي الذي بدأ في الظهور علنا في عهد نوري المالكي، وتصاعد الاستياء بين العراقيين وصولا إلى حكومة الكاظمي التي واجه في تشكيلها صعوبات وعقبات متعدّدة.
إذن كلمة السر التي أبقت على حكومة الكاظمي حتى الآن، هي الدعم الشعبي الكبير وتعطش المجتمع العراقي إلى الخروج من تلك الحلقة محكمة الخناق حوله منذ العام 2003. وكان للإجراءات التي اتخذها الكاظمي مردود إيجابي عند المواطن العراقي. لتكون هذه هي المرة الأولى التي يحظى فيها رئيس وزراء عراقي بدعم واسع من العراقيين من مختلف الطوائف.
العامل الثاني في نجاح الكاظمي حتى الآن أنه رجل مخابرات مخضرم، يملك من المعلومات والخبرات بما يمنحه تفوقا وكعبا أعلى من أقرانه ومناوئيه. ولعل خبرته هذه تحديدا هي التي شجعته على خوض معارك كثيرة وصعبة، وأن يضع يده داخل أعشاش الدبابير في كل المجالات والقطاعات والمؤسسات العراقية.
أما العامل الثالث في فهم تجربة رئيس الوزراء، هو حالة الانضغاط التي واجهت طهران خلال الأعوام الثلاثة الماضية، على وقع التربص والتصعيد الأميركي برئاسة دونالد ترامب، والذي فرض قيودا كثيرة ونوعية على التحركات الإيرانية في الشرق الأوسط ككل، وليس فقط تجاه العراق. وأدركت طهران أن ترامب يتحيّن الفرصة لتوجيه ضربة عسكرية أو إشعال حرب محدودة معها. ولولا تيقن المرشد الأعلى في طهران علي خامنئي ورفاقه من أن ترامب ينتظر فقط إشارة استفزاز للتذرّع بها، لتغيّرت الكثير من سلوكيات إيران “الرشيدة” ومواقفها الصبورة، من وجهة نظرها، خلال العامين الأخيرين لترامب في البيت الأبيض. ومنها القبول بالكاظمي رئيسا لوزراء العراق ثم السكوت عن تحركاته التي تضرب مصالح إيران ونفوذها في العراق في الصميم.
وكما لعبت البيئة الداخلية دور الظهير الحامي لم يكن الكاظمي ليتجرأ على القيام بما قام به من تحدٍّ للقوى المتحكمة في العراق، دون الاطمئنان إلى وجود بيئة خارجية مواتية وداعمة. وهو ما توافر له بكفاية وكفاءة، وتجسّد في أشكال متنوعة. شملت رسائل طمأنة وإشارات تشجيع من الدول العربية بعد أن لمست منه استعدادا لخوض معركة انتشال العراق من براثن إيران.
وحرصت بعض دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، على الجمع بين الدعمين السياسي والاقتصادي للكاظمي، وأقصد هنا السعودية والإمارات، فتمّت تفاهمات اقتصادية مهمة تضمنت حدا أدنى من المساندة في إنقاذ لاقتصاد العراق لتعويض الفقدان المتوقع للدعم الإيراني الذي تستخدمه طهران في الضغط على العراق شعبا وحكومة. كما اتخذت خطوات خليجية وعربية مهمة تؤكد الدعم السياسي والتقارب الثنائي والجماعي مع العراق. ثم جاء التنسيق الثلاثي بين العراق ومصر والأردن، ليضع تلك البيئة العربية المواتية على مسار عملي باتجاه التكامل وتعظيم الاستفادة الجماعية من الميزة النسبية لكل دولة في إطار جماعي.
لكن، رغم تمتع الكاظمي بهذه الفرص والمفاتيح التي أتيحت له لتحرير العراق من نفوذ إيران ورجالها في الداخل، فإن التفاؤل بعهده لا بد أن يتحلّى بالواقعية. إذ لا يزال المشوار أمامه طويلا ومليئا بالألغام والعقبات، ولن تقف إيران منتظرة تصفية وجودها في العراق. وفي سبيل ذلك لديها من الأوراق الكثير، ما يستحق قراءة أخرى متأنية.