بقلم: أسعد عبود – النهار العربي
الشرق اليوم – تحمل الجولة الأولى للرئيس الأميركي جو بايدن في أوروبا، الكثير من الدلالات حول جوهر السياسة الخارجية التي ينادي بها الرئيس الديموقراطي منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض، عندما قال متوجهاً إلى الحلفاء إن “أميركا عادت”، في رسالة لا تخطئها العين حول الرغبة في العودة إلى العمل المتعدد الأطراف، بعد سنوات أربع، رفع فيها سلفه الجمهوري دونالد ترامب شعار “أميركا أولاً”.
لم يخفِ الزعماء الأوروبيون من حلفاء أميركا حماستهم لفوز بايدن في الانتخابات الرئاسية في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. بعضهم حبس الأنفاس خوفاً من فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية، بما كان يعنيه ذلك من اتساع الهوة بين ضفتي الأطلسي، وما سيجرّه ذلك من تأثيرات سياسية وعسكرية واقتصادية على أوروبا.
ولا ينسى الأوروبيون، كيف أن ترامب تعامل معهم، وكيف قال إن حلف شمال الأطلسي “قد عفّى عليه الزمن”، ليعود بعد ذلك ليوجه أقسى الانتقادات العلنية الى الحلفاء، متهماً إياهم بالتقاعس عن دفع مستحقاتهم المالية مقابل الحماية التي وفرتها لهم الولايات المتحدة من الاتحاد السوفياتي السابق ومن بعده من روسيا. وبلغ التوتر مع ألمانيا درجة أمر معها ترامب بخفض الوجود العسكري الأميركي في ألمانيا ونقل آلاف من الجنود الأميركيين من هناك إلى بولندا.
ولم يتوانَ ترامب عن مطالبة ألمانيا علناً بدفع ثمن الحماية الأميركية، فيما لم تكن الإهانات التي ألحقها بفرنسا أقل وطأة عندما قال إنه لولا الولايات المتحدة لكان الفرنسيون يتحدثون الألمانية الآن، في تذكير فج بالدور الذي لعبته الولايات وجيوشها في تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية. واضطر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الرد، مذكراً بالمساعدة التي قدمتها فرنسا لأميركا في حرب الاستقلال عن بريطانيا في القرن الثامن عشر.
وذهب ترامب أبعد من ذلك، عندما رثى الاتحاد الأوروبي وشجع بريطانيا على المضي في الخروج من التكتل، وكان من أشد المعجبين برئيس الوزراء بوريس جونسون الذي قاد لندن إلى الخروج من الاتحاد، نظراً الى ما يتصف به من شعبوية شبيهة بشعبويته. لكن جونسون تنبه إلى مخاطر ما يمكن أن يجره هذا الشبه من دمار على مستقبله السياسي، فكان أول زعيم أوروبي وعالمي يتقدم بالتهنئة لبايدن على فوزه في الانتخابات التي يرفض ترامب التسليم بنتائجها حتى الآن.
والاندفاع الشعبوي لترامب، كان من شأنه، لو بقي في السلطة، أن ينعكس على تماسك الاتحاد الأوروبي ويشجع دولاً أخرى على الخروج من الاتحاد الذي نظر إليه الرئيس الأميركي السابق كمنافس اقتصادي للولايات المتحدة، ولم يتأخر في زيادة الرسوم الجمركية على صادرات الاتحاد إلى أميركا، على غرار ما فعل مع الصين.
كذلك أحدث ترامب الهلع في قلوب الأوروبيين، نتيجة عدم حماسته لحلف شمال الأطلسي، في وقت كان يبدي فيه الإعجاب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفاجأ ترامب الحلفاء بالكثير من القرارات الأحادية التي اتخذها، مثل إعلان الانسحاب عسكرياً بالكامل من سوريا، قبل أن يتراجع تحت ضغط المسؤولين العسكريين الأميركيين. كما اتخذ ترامب قرار الانسحاب من أفغانستان من جانب واحد، برغم انتشار قوات أطلسية في هذا البلد.
كل ذلك دفع بفرنسا وألمانيا وقادة آخرين إلى ضرورة الدفع قدماً بخطط إنشاء قوة أوروبية مشتركة، تحسباً لما يمكن أن يكون عليه مستقبل حلف شمال الأطلسي، لو بقي ترامب في البيت الأبيض أربعة أعوام أخرى.
لا يقف الأمر عند هذا الحد. فالأوروبيون استولى عليهم الذهول وهم يشاهدون أنصار ترامب يقتحمون مبنى الكونغرس، وبدأوا يفكرون بأن ثمة شيئاً غريباً يحصل لأقوى ديموقراطية في العالم.
كل هذه الهواجس كانت تدور في أذهان الزعماء الأوروبيين، عندما التقوا بايدن في سياق القمة الأطلسية التي تقصّد الرئيس الديموقراطي أن يعبّر فيها عن متانة العلاقة عبر ضفتي الأطلسي، وأن يزيل الكثير من رواسب المخاوف التي خلّفتها حقبة ترامب.
وأراد بايدن أن يقول للحلفاء إن أميركا لن تتركهم وحدهم في مواجهة طموحات بوتين. وهو تقصّد أن تأتي القمة الأميركية – الروسية في جنيف، بعد أن يكون قد التقى قادة أوروبا وأطلعهم على الغاية من القمة، وحمل إليها أيضاً ما ينتابهم من قلق حيال سلوك روسيا في أوكرانيا وباقي أوروبا.
هذا ما يتطلع إليه بايدن في وقت يريد من أوروبا أيضاً أن تقف معه بكل قوة في مواجهة شرسة تخوضها ضد الصين وروسيا معاً. فهل تفعل؟