بقلم: عبد الفتاح نعوم – سكاي نيوز
الشرق اليوم– منذ أن حرر المغرب معبر الكركارات من المرتزقة، وأجهض مشروعهم القاضي بتأسيس كانتون يمتد من تندوف إلى المحيط الأطلسي، ومن ثم السيطرة على المعابر البرية والبحرية الرابطة بين إفريقيا وأوروبا، وأنا أكتب وأتحدث عن تحول استراتيجي كبير يطل برأسه على السياسة الدولية.
لتتوالى بعد ذلك قرارات افتتاح قنصليتي الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة في الصحراء المغربية، باعتبارهما دولتان تملكان عقولا استراتيجية جبارة، وتفكيرهما السياسي آت من المستقبل، فقد فهمتا أن المغرب فعلا قوة إقليمية باتت لديها كل العناصر التي تؤهلها لتكون ملتقى الربط بين نصفي الكرة الشمالي والجنوبي، وتشبيك ضفتي الأطلسي، فضلا عن الربط بين شرق المتوسط والخليج وغرب إفريقيا.
هكذا إذن تدحرجت كرة الثلج سريعا، والتقطت بريطانيا الخيط، فمضت نحو توقيع اتفاق تجاري مع المغرب، يشمل الصحراء المغربية، تزامنا مع تفعيلها مقتضيات “بريكسيت”، وكذا فرنسا التي نشّطت قبل كل هذا وبعده حضورها في كل مساحات إفريقيا، بدءا بالساحل وانتهاء برواندا، ومن هنا نفهم “الحرَد” الألماني والإسباني، الذي بقدر ما هو مجرد مشاغبة على النص، بقدر ما هو تعبير عن انتكاس لا مناص منه، وعدم تمكن الدولتين الأوروبيتين من إمساك تلابيب التحول القادم، ولا إنقاذ البنيان الأوروبي الآيل للسقوط، في وقت ليس للدولتين أي حضور فعلي في المساحات الحيوية التي تتوجه نحوها السياسة الدولية بكل ثقلها، حيث الزمن ضاغط، والقرن الإفريقي صار حتمية لا مناص منها، فكل قضايا السياسة الدولية ترتحل من آسيا صوب إفريقيا بدءا بالطاقة والغذاء والمياه وانتهاء بالإرهاب والهجرة وحقوق الإنسان.
لنا في وجه كل هذا أن نتأمل كيف انقلب هرم السياسة الدولية، وانهدم معبدها الذي استغرق بناؤه قرنا بكامله، فالقوى التقليدية، ممثلة في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية قد صارت على أهبة الاستعداد لترسم معادلة جديدة قوامها وضع ألمانيا وإسبانيا، في نفس الموقع الذي كانت فيها فرنسا وبريطانيا نفسيهما بعيد الحرب العالمية الثانية، لما فاجأهما الصعود المطرد لبلاد العم سام على مسرح السياسة الدولية، وآل إليها زمام المبادرة في الشرق الأوسط، الذي فقدته القوتان الكبريتان، على حد تعبير الراحل إدوارد سعيد، غير أنهما سرعان ما سارا خلف واشنطن في مسار رسمته منذ أن رعت هي ولادة الناتو، ورعت معهما لاحقا ولادة ونشوء الاتحاد الأوروبي، الذي ما انفصلت هواجسه العسكرية الأمنية يوما عن رؤية التحالف العسكري الأقوى منذئذ.
ويبدو أن صعود وهبوط القوى على مسرح السياسة الدولية، والذي بلغ مداه مع سقوط مشروعي الشيوعية في روسيا والصين ثم انبعاثهما من رحم التحول نحو اقتصاد السوق، مع نهاية العقد الأول من الألفية الجارية، يُظهر بجلاء أن المعادلة التي استقرت هي تلك الماثلة في خمس دول ورثت حضورا قويا، برغم كل ذلك الصعود والهبوط، داخل هرم صناعة القرار العالمي، وضمنا داخل الآليات الأممية التي تشكل نواتها الصلبة الدول الخمسة المالكة للعضوية الدائمة في مجلس الآمن، فيما تحملت ألمانيا منذ العام 1945 كل التبعات، وعاشت إسبانيا مخاضات داخلية لا حصر لها، تقلص معها مداها الحيوي، وغُلَّت يدُها حيال القضايا الأساسية للسياسة الدولية.
غير أن قراءة بانورامية لتاريخ العلاقات الدولية والجيوبوليتك من أعلى، تُظهر أن ذروة سنام السياسة الدولية منذ خمسة آلاف سنة تقريبا، كانت هي حوض البحر الأبيض المتوسط، وشرقه “الليفانت” بالتحديد، هناك حيث اكتُشفت الزراعة والاستقرار، وهناك اخترع الاجتماعُ الإنسانيُّ الدولةَ، وعلى تلك النقطة كان بصر كل القوى التي نشأت والحضارات والإمبراطوريات التي تعاقبت، لآلاف السنين، وهاهي أهمية المتوسط تلفظ أنفاسها الأخيرة مع الخلافات اليتيمة حول غازه ومشكلات الحدود البحرية، مقابل تزايد أهمية المحيط الأطلسي، والمنطقة الواقعة بين مداري الجدي والسرطان في القارتين الإفريقية والأميركية، هناك حيث تتداخل مشكلات البيئة والمياه بالزراعة بالمشاكل السياسية والأمنية التي تغذي جحافل الهجرة والجريمة المنظمة وكل معضلات العصر.
لابد إذن أن أحدا ما يجر الآخر نحو لبِّ الموضوع، فالصين وروسيا، من ناحية، وفرنسا وبريطانيا الولايات المتحدة، من ناحية ثانية، قوى لا تتوانى عند أي سانحة لكي توسع حضورها على رقعة الشطرنج تلك، ومن ناحية ثالثة إيران وتركيا وأدواتهما من إرهاب دربتاه ورعتاه في شرق المتوسط، تتجه هي الأخرى بلا هوادة نحو غرب إفريقيا والساحل والصحراء، ويُطاول بعضها البعض الآخر نحو وسط القارة الأميركية وجنوبها.
وكل ذلك في اتجاه يشي بأن تداخل الفاعلين والمواضيع إنما يشي بالتحول الوشيك، والذي ليس من نافل القول بصدده؛ اعتبار أن مراجعة بريطانيا والولايات المتحدة للميثاق الأطلسي بينهما لتشمل تلكم القضايا، ليست سوى دليل إضافي واضح على هذا التحول.
صحيح أن أهمية الباسيفيك بالنسبة للولايات المتحدة ليست بالأمر اليسير، ولطالما تعالت صيحات من داخل النخبة السياسية في واشنطن إلى الاهتمام به، على نحو ما كانت قد كتبته هيلاري كلينتون منذ العام 2010، على صفحات الفورين أفيرز، حينما دعت إلى ضرورة إنشاء حلف للباسيفيك للتوازي مع حلف الناتو، لكن الأهمية العظمى للمحيط الأطلسي تتجاوز ذلك بكثير، حيث لنا ان نتأمل كمية المعطيات المرعبة ذات الصلة فقط بعجز كل ثروتنا العلمية البشرية عن سبر أغوار هذا المكان الذي بقيت كتب الجغارفة والرحالة تسميه “بحر الظلمات” إلى الأمس القريب من عمر الحضارة الطويل، قبيل اكتشاف القارة الأمريكية، دونما إغفال أن كل الحديث الآن يتعلق بتشبيك القوى الرابضة على ضفتيه فقط، حيث الهيمنة عليه ما تزال بعيدة المنال ربما.
وبقدر ما لماكينة صناعة المفاهيم والبراديغمات في الولايات المتحدة أهمية بالغة، فإنه يسعنا القول أن انتباه المثقفين الأميركيين منذ نهاية التسعينيات، مهم في هذا الصدد، مثل تنظير ستيوارت أيزنستات وزير الخزانة الأميركية في عهد الرئيس بيل كلينتون، للفصل بين منظمة شمال إفريقيا عن منظومة اشرق الأوسط، وما تلا ذلك من إنشاء قوات “أفريكوم”، واتفاقية التبادل الحر، فقد كانت هذه الرؤية نقطة تحول مفصلي تزامنت مع انتقال مركز الثقل في السياسة الدولية من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي، من بوابة تشبيك البحر والمحيط، ثم تشبيك شمال الأطلسي مع جنوبه، عبر الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، تلك السيادة التي باتت هي الكلمة المفتاحية لاستقرار مركز الثقل الجديد هذا، ومن ثم التأشير العالمي على كون الرباط هي رأس رمح التحول المذكور، حيث لا غنى عن الرباط للربط بين ضفتي الأطلسي.