بقلم: حسن إسميك – العرب اللندنية
من باب القضاء ولج عالم المفاوضات فأرسى أسس ومبادئ السيادة قبل أن يحدّدها جان بودان في كتابه “الجمهورية”. الحديث ليس عن فيلسوف عاصر بودان بل عن عليّ بن أبي طالب الذي سبق بودان بألف عام، وقال عنه جبران خليل جبران “ما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة”. بعد أكثر من 1400 عام لا يزال عليّ، كما يجادل حسن إسميك في هذا المقال، صالحا لكل زمان ومكان ووعاء متّسعا يستطيع كل إنسان أن يغترف منه.
الشرق اليوم- بعيدا عن الجدل السفسطائي المفرّق، والنسَبِ غير المنطقي لجماعة دون أخرى، سأخوض حديثي اليوم عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ الإنسان والخليفة الراشدي، صهرُ نبيّ المسلمين محمّد (عليه الصلاة والسلام) وابن عمه ومحلّ ثقته. ثم الفيلسوف العادل، الذي طغت نزعته العقلية على فكره وفلسفته، فكانت رِباطاً محكماً بين الدين والدنيا، صالحاً لكل زمان ومكان، ووعاءً متسعاً يستطيع كل إنسان أن يغترف منه، وحجة دامغة في وجه من يريد بالحق باطلاً.
وبعد أكثر من 1400 عام، لا يزال عليّ بن أبي طالب من أكثر الشخصيات الإسلامية تأثيراً، بشهادة تجاوزت المسلمين والعرب.
فكر إنساني فريد
رغم أنّه دائماً ما أحاطت الإشكاليات بالشخصيات التاريخية، فنجد من يغالي في حبها حدّ التقديس، ومن يبغضها ويجرّدها من سماتها الأخلاقية والإنسانية، بقيت شخصية عليّ وفكره النيّر موضع إجماع لدى المسلمين بفئاتهم وطوائفهم المختلفة.
وربما علينا أن نولي هذا الإجماع ما يستحقه من اهتمام، سعياً لجعله إطاراً يجمع المسلمين ديناً ودنيا، فيكون النسغ الذي يغذي وحدتنا، بعيداً عن محاولات الاحتكار والاستغلال السياسي لفكر إنساني فريد تمتع به أحد المبشّرين بالجنة.
ظهرت النزعة العقلية لدى عليّ بن أبي طالب في وقت مبكر من حياته، فاكتسب ثقافة عالية رفدَها الدين الصحيح الذي استقاه من المنهل مباشرة، بقربه من النبي محمّد صلى الله عليه وسلّم، وتحولّ خلال فترة زمنية قصيرة من مستقبلٍ وجامع للأفكار، إلى مرسلٍ ومُنتجٍ لها، فصهر كل المعارف في بوتقة العقل، وقدّمها مقترنة بالبلاغة والبيان والفصاحة، ما جعلها أقرب إلى عقول الناس على اختلاف معتقداتهم وأزمانهم.
كان عليّ، دون شك، أحد أهم العقول العربية التي دأبت على فتح الآفاق أمام الأبعاد الفلسفية المنتقدة للقواعد والنصوص التي أطرّت الحياة بحدودها الجامدة، وتكلّلت هذه الفلسفة ببلاغة اللفظ والمعنى، لتجمع أسرار الحياة ضمن التوليفة الأزلية القائمة على ثلاثة أعمدة أساسية، وهي: (الله، الحياة، والإنسان). وتثبت هذه الأمور بما لا يدع مجالا للشك أن الفكر والفعل عند علي إنما يصبّان بشكل أكيد في صميم الفلسفة التي تبحث بشكل مستمر عن إجابات على الأسئلة المشروعة التي يسألها كل إنسان بفطرته الأولى.
فمعرفة الله في فكر عليّ مثلا، لا تقترن بجزاء الجنة أو بعاقبة النار، وإنما تقترن بالمحبة دون شروط مسبقة، والمستندة إلى الحرية التي تدفع المرء للبحث والمعرفة والفهم، لا العبودية المتحجّرة التي تقيّده بالسلاسل الدنيوية. وبذلك، كان عليّ أول الثائرين على المعتقدات الدينية والدنيوية المنتشرة آنذاك، وقد نُقل عنه قوله في وحدانية الله “لو كان لربك شريك لأتتك رسله”، فاتحا باب الاستدلال البرهاني والوجداني في المعارف الإلهية، التي تبدأ من نفس الإنسان وباطنه التأملي، على عكس معرفة الأشياء بمدلولاتها الحسيّة، حيث تبدأ من الخارج إلى الداخل.
إلاّ القضاء
بالاستمرار في اقتفاء الأثر الفكري لعليّ بن أبي طالب، يتضح لنا في كل مجال نزعة عقلية نحن أحوج ما نكون إليها اليوم، فطاعة الهوى تُفسد العقل، والعقل فضيلة الإنسان، وعقل المرء نظامه وهو حسام قاطع في كل حال. ونجد في كل فكرة نستقصيها لديه دعوة إلى استلال هذا الحسام (العقل) في ميدان الحياة، فنحولها إلى منبع للخير بدلا من جعلها مصدرا للشرّ.
اشتهر عليّ بسداد الرأي، ربما هذا ما دفع رسولنا الكريم إلى وصفه بـ”أقضى الناس”، وهو الذي قال “كل شيء فيه حيلة إلا القضاء”، يروي عن نفسه قائلا “بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني، أي أكبر مني سناً، وأنا حدث لا أبصر القضاء؟ فوضع يده على صدري وقال: “الله مثبت لسانه وأهد قلبه، يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء”، فما أشكل علي قضاء بعد”. ويُعرف عنه أنه التزم طوال حياته بحل النزاعات الحاصلة بالعقل والقياس المنطقي حين يغيب فيها النص الشرعي، فكان أعدل القضاة وأكثرهم حيطة وحذرا.
واستكمالاً لدوره في إرساء العدل، أظهر خصوصية مطلقة لرؤساء القضاة، ووضع الصفات والفضائل التي يجب أن يتحلّى بها القاضي، فرسم بذلك المعالم الأولى لمؤسسة القضاء المتحررة من سطوة النظريات والقوالب الجاهزة. يظهر ذلك بوضوح في رسالته التي أرسلها إلى مالك بن الأشتر عندما ولاّه حكم مصر في فترة خلافته، ومما جاء فيها “أن يكون القاضي متعلّما واسع المعرفة، لا تغريه الدنيا، يحكم بالبراهين والأدلة، ولا يصرّ على رأيه إن أخطأ”.
أقصى درجات الانفتاح
من باب القضاء ولج عليّ عالم المفاوضات وإدارة الأزمات، فأرسى أسس ومبادئ السيادة قبل أن يحددها جان بودان في كتابه “الجمهورية” بألف عام، وتحدث عن الشرعية والالتزام والبدائل والمصلحة، مترافقة مع العلم والصبر والثبات والمسؤولية، قبل روجر فيشر بألف وأربعمئة عام. وانشغل بأحوال الرعية ونصرة الفقراء والمستضعفين، ووضع اللبنة الأساسية لإحداث تحولات اجتماعية واسعة النطاق، فألغى الامتيازات والمحسوبيات التي امتلكها بعض الأعيان من أقاربه والتجار وأصحاب المال.
وتجلّت رسالته العالمية في مقولته الشهيرة “الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، مُختصرا رسالة الإسلام الحقيقية التي تتخذ من الإنسان غايتها وهدفها، وداعيا إلى السلام والتسامح الذي انتهجه هو شخصيا حين أوصى بالإحسان إلى قاتله وعدم تعذيبه، ومؤسسا لنظام إنساني يقوم على إلغاء الفروقات المبنية على مباعث التفوق الوهمي ونتائجه، الكارثية أحيانا، والتي أدت في مراحل تاريخية كثيرة إلى دمار لا يوصف ومآسٍ لا تطاق.
من المهم اليوم، وبعد سبر أغوار هذا الفكر المتقدّ، أن نميز بين الرسالة الإنسانية والتوظيف السياسي الذي يجري حاليا لاسم شخصية تاريخية بحجم عليّ بن أبي طالب (كرّم الله وجهه)، وهي دعوة في الوقت ذاته لمن يدّعون أنهم أتباعه وشيعته للاهتداء الحقيقي بنور علمه وبالمساواة التي سعى إلى إرسائها بين البشر، وعدم استغلالها بما يعاكس ذلك تماماً، كما نرى لدى النظام الإيراني الذي يعتمد استقطاباً طائفياً بغيضاً، يعمقّ انقسام المجتمع الإسلامي، مرتكزاً على تصنيف المسلمين ما بين أتباع لعليّ ومعادين له، وهذا غير صحيح بالمطلق.
تحاول إيران استخدام التشيّع للتسلّل إلى قلب المجتمع العربي وزرع التفرقة بين أبنائه بالاستناد إلى محبة علي بن أبي طالب والولاء له، فتستغل الدين لخدمة أهدافها السياسية وفرض وجودها في المنطقة كقوّة، علما وأن تدخلات الحرس الثوري الإيراني وامتداداته في المنطقة بحجة محاربة إسرائيل أو بحجج أخرى، هي التي خرّبت وأفقرت دولا غنية ومتقدمة كالعراق أو مكتفية كسوريا، مستغلّة في الوقت نفسه ضعف الأنظمة العربية وإخفاقها في إقامة حكومات ديمقراطية تبني الإنسان، وتعزز انتماءه الوطني.
ختاما لم يكن النتاج الإنساني والمعرفي لأي مفكر على مدى التاريخ حكرا على فئة دون أخرى، وليس من المقبول في عالم وصل أقصى درجات الانفتاح أن يتمّ تحجيم إنجازٍ فكري بحجم ما ترك علي بن أبي طالب للإنسانية جمعاء، وتوظيفه في خدمة أجندات وأيديولوجيات معروفة الأهداف. وإني لأعتقد جازما أنه قد آن أوان الاستفادة من تاريخنا واقتفاء آثار عظمائنا في ما فيه خدمة السلام والوحدة والقوة بدل النزاع والتشتت، علّنا نستعيد مسارنا الصحيح فنصير قدوة للآخرين كما كان هؤلاء العظماء لنا.