بقلم: محمد قواص – النهار العربي
الشرق اليوم- استطاع دونالد ترامب خلال أربعة أعوام فقط هزّ بنيان أيديولوجي سياسي عسكري اقتصادي، تشكل منه “الغرب” منذ الحرب العالمية الثانية. صدّع الرجل علاقة الولايات المتحدة بمجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، وهي الأعمدة الأساسية للتكتل الذي مثّل التحدّي الأساسي لـ”الكتلة الشرقية” في مرحلة الحرب الباردة، سواء في النسخة الصينية أم تلك السوفياتية وتوابعهما وتحالفاتهما في العالم. دخل رجل العقارات إلى البيت الأبيض فتحوّل “الغرب” من اليقين إلى الاحتمال.
بدت واشنطن في عهد الرئيس الأميركي السابق انتقائية في العلاقة بالحلفاء، مزاجية في الوصل مع الخصوم. اقترب ترامب من بريطانيا ورئيس وزرائها بوريس جونسون، مشجعاً لندن على الانفصال عن “أوروبا” بالاستناد الى الدعم الأميركي المطلق، وابتعد عن ألمانيا، مثلاً، ورفض في اللقاء الأول مصافحة المستشارة أنجيلا ميركيل. وفي ذلك التمرين أصل يتأسس على قاعدة الكره للاتحاد الأوروبي والتمتع بفكفكته والحلم باندثاره.
اتفق ترامب في ذلك الطموح، للمفارقة، مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. الرجلان لا يحبان “أوروبا” ويكرهان تلك التكتلات الدولية التي تنافس بلديهما على الزعامة والتمكن من إدارة الصراعات في العالم. وإذا ما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كارهاً لأوروبا مبتزاً إياها بتسونامي من اللاجئين ويستفزه استعلاؤها على القبول بعضوية تركيا داخل الاتحاد، فإنه، وربما لهذا السبب، لقي من ترامب وداً وإعجاباً وتعاوناً يفتقدها أردوغان اليوم في عهد خلفه جو بايدن.
لا تعرف أميركا كثيراً ما دار بين ترامب وبوتين في خلوتهما الشهيرة في هلسنكي صيف عام 2018. لكن أميركا لم تعرف فحوى أي لقاءات جمعت الرجلين قبل ذلك وبعده. تعامل ترامب مع بوتين بإعجاب واعتبره صديقاً. تبرع بنفي اتهامات كالتها مؤسسات الأمن الأميركية لموسكو بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ملمّحة الى أن هذا التدخل ساهم، ربما، بإطاحة المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون لمصلحة دونالد ترامب.
اصطدمت واشنطن في عهد ترامب بالاتحاد الأوروبي. عاملته كما عاملت “العدو” الصيني، وعاقبته في فرض تعرفات جمركية مرتفعة. لم يظهر ترامب علاقات ود بقادة مجموعة الدول السبع، وراح يحاضر في دول “حلف شمال الأطلسي”، معتبراً الحلف متقادماً “عفّى عليه الزمن”، وموحياً بالتحلل من الانخراط به. في ذلك الزمن استنتج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الناتو في حالة “موت سريري”.
أفرجت الشعبوية الأميركية عن وقاحة فجّة في التعامل مع البنيان الغربي وعقائده. انتعشت أحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية التي تستعيد نصوصاً معيبة تعود لعهد الفاشية والنازية. راج نزوع مقلق ينشط للعودة إلى الانعزال وتدمير البنيان الأوروبي والانعطاف نحو تجويف ما تحقق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من قيم في التعدد والتسامح ونبذ العنصرية. بات من العاديات تعويم عقيدة “الإنسان الأبيض” المتناسلة مما تشيعه أميركا في عهد ترامب.
على هذا يفقد “الغرب” هذه الأيام ثقته بالدور القائد للولايات المتحدة في العالم. يكشف استطلاع الرأي الذي أجراه “صندوق مارشال الألماني” و”مؤسسة برتلسمان” عن تصدّع ثقة الأوروبيين بمكانة أميركا. يستنتجون تقدم الصين وروسيا. يستغربون (برغم فشلهم في هذا الميدان)، “الانهيار” الأميركي أمام جائحة كوفيد-19 مقابل الرشاقة الصينية. ومصدومون من قدرة صندوق انتخابي في ولاية أميركية على دفع واشنطن إلى الإجهار بالتخلي عن أوروبا والغرب لمصلحة بدائل استراتيجية خلّبية تتراوح ما بين “أميركا أولاً” والتقاط الـ”سيلفي” مع كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية، مروراً بمعاشرة وجهاء الاستبداد والتطرف والشعبوية من أوروبا إلى البرازيل.
على تلك الأطلال يتقدم جو بايدن. يأتي “لحشد الديموقراطيات في العالم”. يطل على أوروبا في جولته الحالية معتمداً، أيضاً، على صندوق انتخاب أميركي لإعادة ترميم ما تصدّع، وإنعاش التحالف بين ضفتي المحيط الأطلسي، وإعادة التبشر بـ”الغرب” من جديد. سيلتقي الرجل في كورنوال (في إنكلترا) وبروكسل “الحلفاء” قبل أن يختتم جولته الأوروبية في جنيف باللقاء مع “القاتل” بوتين (وفق وصفه).
ابتعدت واشنطن عن أوروبا فراحت الأخيرة لإبرام اتفاق اقتصادي عملاق كان عصياً قبل ذلك مع الصين. لم تأبه ألمانيا للتحذيرات الأميركية في المضيّ قدماً في تنفيذ مشروع “سيل الشمال 2” لنقل الغاز من روسيا. بدا أن أوروبا الحائرة تبحث عن سبل جديدة خلاقة لمقاربة عالم تفقد فيه الولايات المتحدة موقعها. وفيما هزّ البريكست البريطاني أعمدة “المشروع الأوروبي”، إلا أن الاتحاد أظهر مع ذلك صلابة في التعامل مع “تمرد” لندن وجعله استثناءً لن يؤسس لسابقة تهدد ديمومته. يأتي بايدن، على نقيض ترامب، داعماً لمتانة الاتحاد متدخلاً لضبط الانفلات البريطاني.
راقبت العواصم الغربية الانتخابات الرئاسية الأميركية وتعاملت معها بصفتها استحقاقاً وشأناً داخلياً لها. سرّها مجتمعة رحيل ترامب وقدوم بايدن ولم تبخل في التعبير عن ذلك حتى لو تخطى الأمر حدود اللياقة والأعراف. بيد أن تلك العواصم، لا سيما في أوروبا، كما يكشف استطلاع الرأي الأخير، فقدت يقينها السابق بالحقيقة المطلقة لأميركا، وباتت تؤمن، بالتجربة الموجعة، بنسبية الأمر وعدم نهائيته. وما قد يسهّل مهمة بايدن في استعادة الحلفاء وإقناعهم بالريادة الأميركية هو أن أوروبا المنقسمة حول / والعاجزة عن إنشاء منظومتها الدفاعية المستقلة عن الولايات المتحدة، لا تملك بديلاً غير استعادة “الإيمان” بالمعجزة الأميركية.
على أن الأضرار التي أحدثتها الترامبية داخل البيت الغربي عموماً، والأوروبي خصوصاً، لا يمكن أن تزيلها ابتسامة بايدن ولهجته الأبوية. تلميح ترامب بالترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة يذكّر هذا “الغرب” بأن المزاج الانتخابي الأميركي مرن وشديد التذبذب على النحو الذي لا يمكن الركون إليه في بناء مطالعة رؤيوية لفهم هذا العالم ومواجهة “التحورات” الكبرى التي يمثلها التحوّل الصيني والصقيع القادم من روسيا.