بقلم: د. عماد بوظو – الحرة
الشرق اليوم- في 23 فبراير 1945 التقط مصوّر وكالة أسوشيتد برس، جو روزنتال، صورة لستة جنود أميركيين يرفعون علم بلادهم فوق الفوهة البركانية لجبل سوريباتشي في جزيرة أيو جيما اليابانية، خلال واحدة من أكثر المعارك التي خاضها الجيش الأميركي ضراوة، والتي استمرت بضعة أسابيع قتل وجرح خلالها أكثر من 26 ألف جندي أميركي من أصل 70 ألف شاركوا فيها، ورغم هذه الخسائر البشرية الكبيرة فقد واصل الأميركيون هجومهم إلى أن تمكنوا من السيطرة على الجزيرة، حتى أن ثلاثة من الجنود الستة الموجودين في هذه الصورة قتلوا بعد أيام في المعركة نفسها.
وخلال أيام، انتشرت هذه الصورة في مختلف المدن الأميركية وأصبحت رمزا لسندات لدعم المجهود الحربي جمعت 24 مليار دولار وتم إنتاج أفلام حولها، كما قرر مجلس الشيوخ تحويلها إلى نصب تذكاري لمشاة البحرية تم وضعه في أرلينغتون بولاية فيرجينيا قرب المقبرة العسكرية التي تضم رفات أكثر من 400 ألف شخص أغلبهم جنود قدموا حياتهم فداء لوطنهم، وفي نفس المقبرة تم الاحتفال في نهاية شهر مايو الماضي بيوم الذكرى “ميموريال داي” المخصص لتكريم جميع الأميركيين الذين قتلوا في ساحات المعارك، وهذا يدفع للتساؤل حول كيف تكوّن هذا الولاء للوطن الجديد عند أبناء مهاجرين قادمين من مختلف قارات العالم إلى دولة حديثة العهد إلى درجة التضحية بحياتهم في سبيلها.
ويبدو أن أول أسباب هذا الولاء هو الطبيعة الديمقراطية للنظام السياسي الأميركي، لأن هذا النظام الذي يحرص على حرية وكرامة جميع المواطنين مهما كانت خلفياتهم العرقية والدينية والثقافية قدّم بديلا مقنعا عن الأنظمة الشمولية التي كانت سائدة في أوروبا وقتها مثل النازية والفاشية والشيوعية التي أتى منها كثير من الأميركيين، حيث شاهدوا في وطنهم الجديد التداول الدوري للسلطة حسب رغبة الناخبين، وتابعوا الإعلام الحر وهو يعبر عن مختلف الآراء والتوجهات ويقوم بإيصال أصوات الجميع، وشاهدوا القضاء المستقل وهو يقف في كثير من الأحيان في وجه السلطة وأصحاب النفوذ.
ومما يؤكد على أهمية الديمقراطية في بناء الهوية الوطنية فشل كيانات سياسية أخرى في المحافظة على وجودها عندما لم تعتمد النظام الديمقراطي مثل الاتحاد السوفيتي، الذي لم يتمكّن جيشه الكبير وجهاز مخابراته المرعب من منع انهياره بعد سبعة عقود من قيامه، ليوضّح أن القبضة الأمنية لا يمكن أن تنجح على المدى البعيد في بناء وطن يشعر كافة أبناؤه بالولاء له والانتماء إليه، ولا تختلف تجربة جمهورية الصين الشعبية حاليا عن التجربة السوفييتية من ناحية الاعتماد على القبضة الأمنية في محاولة بناء وطن، رغم حالة الاستياء الواضحة عند شرائح متزايدة من مكونات هذه الدولة، ومن المبكّر التنبّؤ بمصير التجربة الصينية لأنها مازالت حديثة عمرها سبعة عقود.
كما تميزت التجربة الأميركية بناحية أخرى لا تقل أهمية وهي “الغنى من خلال التنوع”، ففي ثقافة الولايات المتحدة لا يوجد غضاضة من قيام بلدات صينية أو هندية ضمن المدن الأميركية أغلب ما فيها من البشر والبضائع والأطعمة يعود إلى هذه البلدان، أو وجود أحياء إيطالية أو شوارع وبلدات تحمل اسم لبنان أو سوريا الصغيرة أو مطاعم من كافة دول العالم، فهذا التنوع بدل أن يكون سببا للصراع أو تهديدا لوحدة البلد هو في الولايات المتحدة سببا للثراء الثقافي ووسيلة تساعد في استقطاب الكفاءات من كل مكان، كما تتفهّم الثقافة الأميركية أن يعتز كل إنسان بجذوره ومعتقداته وثقافة أجداده على أن يحترم بالمقابل معتقدات وثقافة بقية المكونات، وهذا لم يكن ممكنا لولا تساوي جميع هذه المكونات في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة، حيث بإمكان الجميع تنظيم احتفالاتهم وأداء عباداتهم بكامل الحرية ضمن وطن يستوعب كامل أبنائه.
وفي هذه الناحية، تميّزت الولايات المتحدة على دول ديمقراطية عريقة لم تتمكن حتى الآن من التغلب على رغبة بعض مكوناتها بالانفصال عنها، مثل الأيرلنديين والاسكتلنديين في بريطانيا، أو الكاتالونيين في إسبانيا، أو كورسيكا الراغبة بالانفصال عن فرنسا، وبافاريا التي تريد الاستقلال عن ألمانيا وغيرها، إذ رغم الطبيعة الديمقراطية لهذه الأنظمة ورغم أن هذه المطالبات تعتمد الآن على الآليات الديمقراطية إلا أنها تعكس وجود درجة ما من عدم الاندماج الذي لم تستطع قرون طويلة تحقيقه، ومن المفارقات أن هذه المكونات التي فشلت في تحقيق الوحدة في بلادها الأصلية تعيش في الولايات المتحدة بمنتهى الوئام والتناغم.
ولعل أكثر الشعوب التي تحتاج للاستفادة من التجربة الأميركية في بناء هوية وطنية جامعة هي شعوب الشرق الأوسط، التي أثبتت أحداث السنوات الأخيرة أنها لم تتمكن حتى الآن من بناء دولتها الوطنية، ومن الممكن مشاهدة ذلك في العراق وسوريا ولبنان، حيث لا يوجد أي اعتبار للهوية الوطنية أمام الولاء الطائفي، كما يمكن مشاهدته في الخليج حيث تتحدد الولاءات والصراعات حسب الاعتبارات القبلية.
ويضاف فوقها إنكار الكثير من الحكومات وجود مكونات عرقية مختلفة داخل حدود دولها مثل الأكراد في شرق المتوسط والأمازيغ في شمال إفريقيا، أو حرمان الجنسية لمئات الآلاف من السكان بحجة أنهم قادمين من مناطق أخرى رغم أنهم وآباءهم من مواليد البلد مثل فئة البدون في بعض دول الخليج، ووصلت الأمور في بعض دول الشرق الأوسط إلى درجة حرمان الإنسان من حقه في المواطنة أو إسقاط الجنسية عنه نتيجة موقفه السياسي المخالف لرأي الحكّام، حيث اختلط مفهوم الوطن مع الحاكم وأصبح الولاء للحكام هو مقياس الوطنية.
ورغم أن الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي نجحت في بناء هوية وطنية جامعة فقد اشترك معها في ذلك كافة دول العالم الجديد من كندا والبرازيل والأرجنتين حتى أستراليا ونيوزيلندا، ولكن تجربة الولايات المتحدة تبقى متميزة جوهريا لأنها تمكنت منذ تأسيسها قبل قريب القرنين ونصف من استيعاب تنوع بشري غير مسبوق في التاريخ الإنساني من مختلف الأعراق والديانات والثقافات جعل عدد سكانها يتجاوز 330 مليون إنسان ومكّنها من قيادة العالم علميا وثقافيا.
وهذا لا يلغي حقيقة أن التجربة الأميركية مرّت خلال تطورها بامتحانات ومطبّات عديدة وشهدت أحيانا حوادث ذات خلفية عنصرية أو تقييدا على حرية التعبير خاصة خلال الحرب الباردة، ولكنها تمكّنت من تجاوز كل ذلك لأنها كانت قادرة دوما على الاستفادة من أخطائها ومتابعة طريقها حتى تقدم للعالم نموذجا فريدا لبناء دولة حديثة تكون بمثابة حلم للباحثين عن حياة أفضل وتصلح لتكون قدوة لبقية الشعوب.