بقلم: رندة تقي الدين – النهار العربي
الشرق اليوم – يوم انفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) الماضي أبلغ إيمانويل بون كبير مستشاري الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيسه الذي كان في إجازته الصيفية في فور بريغاسون Fort Brégançon في رسالة هاتفية خبر الكارثة. لم تمض ساعتان فجر يوم 5 آب حتى طلب ماكرون من فريقه أن يعد كل المطلوب لكي يكون على الأرض في بيروت. فأسرع الفريق الرئاسي الى المطار للإعداد مع الفريق الأمني لوصول الرئيس إلى الأرض في بيروت. وخلال زيارته تعهد ماكرون للشعب اللبناني بأنه لن يتركه.
ولكن ما يجري حالياً بين الرئاسة الفرنسية والمسؤولين في لبنان حول تشكيل الحكومة لإخراج البلد من انزلاقه الجهنمي هو بمثابة حوار طرشان. برغم كل التعطيل والخلافات بين الأطراف السياسية في لبنان، لا حدود لصبر ماكرون الملتزم عدم ترك اللبنانيين برغم عدم التزام مسؤوليه. فالمستشار الرئاسي باتريك دوريل الدبلوماسي المستشرق الذي يعرف العالم العربي كونه تولى مناصب مستشار في سفارات فرنسا في السعودية وسوريا، هو الذي يقوم حالياً بالتواصل مع المسؤولين اللبنانيين ويكرّس وقتاً طويلاً لإجراء الاتصالات، وآخرها في الأيام الاخيرة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري حول مبادرته لحل معضلة تشكيل الحكومة ومع الرئيس المكلف سعد الحريري، ومع رئيس حزب “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، ومع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.
ورغم كل ما يقال عن عدم احتمال نجاح مبادرة الرئيس بري، فالمسؤول الفرنسي يردد القول إن الأمل لم يسقط وإن من الضروري والملح أن تشكل الحكومة، وينبغي على كل مسؤول أن يساهم في التسهيل كي يتم تشكيلها. فلا نفي باسيل أنه لم يتلق أي عرض من بري ولا استغراب بري رد فعل رئيس الظل باسيل ورفضه مبدأ تسمية الحريري الوزيرين المسيحيين، ولا بيان التيار المؤكد المناصفة، ولا قناعة الحريري بأن الرئيس عون وصهره يريدان التخلص منه وإصراره على عدم التنازل لشروطهما، تغير موقف فرنسا بضرورة استمرار التواصل بشأن تشكيل الحكومة والمطالبة بأن يبذل كل طرف جهوداً من أجل الاتفاق.
باريس استخدمت منع دخول أراضيها على الذين اعتبرتهم معرقلين من دون أن تبوح لأي جهة، حتى لحلفائها الدوليين، عمّن هم الممنوعون من الحصول على تأشيرة شينغين والدخول إلى الأراضي الفرنسية. ولكن، بحسب المسؤولين الفرنسيين، وحدهم المعنيون بهذا المنع على علم بذلك. فكأن باريس خجولة بمثل هذا الإجراء الذي لن تبوح به، ولكن الحقيقة أن عدم كشف هوية هؤلاء مرده الى أن الرئاسة الفرنسية عازمة على الاستمرار في العمل مع المسؤولين حتى ولو أنها منعت مقربين منهم زيارتها. أما زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان لوي لودريان الأخيرة للبنان فكانت أيضاً في إطار الضغط الفرنسي المستمر. وهو كان التقى الرؤساء الثلاثة وحذرهم من عدم الإسراع في تشكيل الحكومة ومن عواقبها على البلد وعليهم شخصياً. ولقاؤه المجتمع المدني بدا وكأن فرنسا تريد استبدال ممثلي المجتمع المدني بالطاقم السياسي اللبناني. ثم أتت زيارة قائد الجيش جوزف عون فرنسا واستقباله من جانب الرئيس إيمانويل ماكرون لتظهر كأن فرنسا تلوّح بأنها تريد استبدال عون آخر بالرئيس عون، في حين أن الحقيقة هي أن ماكرون منذ زيارته الأولى بيروت غداة انفجار المرفأ، وبعد التظاهرات الشعبية ضد السياسيين في لبنان، أثنى على دور الجيش وحمايته السلم الأهلي وعدم التعرض بالقمع للمتظاهرين. ويدرك ماكرون أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة الفاعلة حالياً في البلد رغم صعوبة ظروف الجنود اللبنانيين المعيشية. لذا بذلت فرنسا جهوداً كبرى لعقد مؤتمر دولي داعم للجيش تنظمه وزيرة الدفاع فلورانس بارلي قبل نهاية حزيران (يونيو).
واستمرار فرنسا في الاتصالات مع المسؤولين اللبنانيين يشير الى أن ماكرون لم يخيب أمله بعد ولو أنه لم يعد يتدخل مباشرة بالأطراف اللبنانية، لأن أموراً أخرى تشغله. فالرئيس الفرنسي بدأ يخرج بلده بحذر من إجراءات جائحة الكورونا. كما أنه بدأ يعد لحملة انتخابات الرئاسة المقبلة في أيار (مايو) مع زيارات داخل فرنسا ومراقبة ماذا سيجري في انتخابات المناطق الفرنسية في 20 و27 حزيران. كما أنه على الصعيد الدولي منشغل ببناء علاقته مع إدارة جو بايدن الذي سيلتقيه للمرة الأولى على هامش قمة مجموعة السبعة في لندن أيام 11 و12 و13 حزيران، وربما يثير معه موضوع لبنان كون الإدارة الاميركية سلمت فرنسا الملف اللبناني بصفتها وحدها مهتمة بهذا البلد. وماكرون أيضا منشغل بحوار صعب ومعقد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأيضا توطيد العلاقة مع ألمانيا حيث شريكته أنجيلا ميركل تغادر الحكم في أيلول (سبتمبر) المقبل.
السؤال هو: ما الذي يجعل ماكرون يهتم بهذا الشكل ببلد يقدم مسؤولوه خلافاتهم ومصالحهم الخاصة على مصلحة بلد يغرق في الفقر والمآسي؟ تعتبر فرنسا أن دورها في لبنان يعطيها وجوداً في منطقة المتوسط، حيث أصبحت القوى الوحيدة فيها روسيا وتركيا وإيران. ثم إن باريس تعتبر أن علاقتها التاريخية بمسيحيي الشرق، وخصوصاً مسيحيي لبنان، لها مكانة خاصة لدى الرأي العام الفرنسي، لا سيما في أوساط اليمين السياسي الفرنسي، ولو أن باريس تعمل مع كل الطوائف في لبنان، وحالياً يعبر التواصل والتعاون الفرنسي مع الرئيس بري عن ذلك. واهتمام الشعب الفرنسي بلبنان ينبع من انطباع سائد في الرأي العام بأن لبنان أقرب الى الغرب من أي بلد عربي مسلم آخر.
والرئيس الفرنسي يعلم أيضا أن منافسيه وخصومه في الحملة الانتخابية للرئاسة قد يستخدمون احتمال فشله في لبنان للهجوم عليه وتدمير صورة دبلوماسيته. فماكرون خاطر بالتدخل في الوضع السياسي في لبنان وهو عازم على إنجاح مسعاه لإخراج البلد من التدهور. لذا هو مصمم على دفع فريقه الرئاسي الى الاستمرار في العمل على التواصل وإقناع المسؤولين اللبنانيين بالإسراع في تشكيل الحكومة، وستكون مهمته إذا تم التشكيل دعوة سريعة الى مؤتمر دولي لإنقاذ لبنان. فالأمل ما زال وارداً في ظنه وفي رأي فريقه الرئاسي.