بقلم: جاسم الحلفي – صحيفة المدى
الشرق اليوم- تعلمنا دورس التاريخ أن التنظيم وحسن الإدارة واختيار الأسلوب الكفاحي المناسب، ومعرفة الصراع الأساسي، من أهم مستلزمات صراع القوى المقهورة مع ظالميها. التنظيم يضاعف القدرات، ويعظم الإمكانيات.
لذا فالخطوة المطلوبة من قوى التغيير الآن ومن دون تأخير: الإقدام على تنسيق العمل في إطار سياسي مرن،وبهذا توفر إمكانية ضرورية في كفاحها، سواء مضى الاتجاه العام نحو المشاركة في الانتخابات او مقاطعتها. إحراز النجاح غير ممكن إن بقيت قوى التغيير مشتتة، متفرقة، منعزلة عن جمهورها، مشككة في بعضها. لذا بات من الملح تنضيج رؤية واضحة ومحددة لتوحيد القوى وتنظيم الجهود في إطار سياسي مرن، بدون اقصاء وتهميش واستحواذ، إطار يتشكل أساسه من الأحزاب السياسية التي انبثقت على أثر فعل انتفاضة تشرين، والقوى والأحزاب والشخصيات المدنية الديمقراطية، هي الخطوة التي طال ترقبها، حيث لا يحتاج المرء لإجراء نقاش مستفيض كي يستنتج أهميتها وضرورتها غير القابلة للتأجيل. فبدون توحيد رؤية التشكيلات التشرينية الجديدة الحقيقية مع قوى وشخصيات التيار الديمقراطي، بكل مكوناته السياسية إلى جانب الأطر الفاعلة بالتيار المدني بشكله العام، من نشاطين في مجال الاتحادات الاجتماعية والمهنية والعمل النقابي ومنظمات المجتمع المدني إضافة إلى الشخصيات السياسية المستقلة والقامات الفكرية والاجتماعية والثقافية والأكاديمية، سيما من أصحاب الرأي ومن لديهم حضور مؤثر، هذه الوحدة هي الكفيلة بتنظيم الفعل وتعظيم العزم ومضاعفة إمكانية النصر الذي تتطلع وتسعى اليه الجموع المنتفضة.
لكن ما يؤسف له أنّ هناك من يتندر، وهو على حق، بأن تردد قوى التغيير في توحيد رؤيتها وجهودها، هو أكثر من تردد الحكومة في تنفيذ مطلب محاسبة حيتان الفساد!
لذا فالسؤال عن العجز الذي يحول دون تحقق ذلك يبقى قائما، أما دائرة الشك عما يعرقل هذه الخطوة المرتقبة فهي مفتوحة على شتى الاحتمالات، سيما بعد أن أمسى موضوع وحدة القوى مطلبا غير قابل للتسويف، مطلبا ينادي به كل منتفض ومواطن تصبوا عيونه نحو بارقة الامل المبشرة بإزاحة الفاسدين ومحاكمتهم وحصر السلاح بيد الدولة وتوفير مستلزمات الكرامة الإنسانية لكل مواطن عراقي.
من جهة أخرى لا بد من التنبيه، أن الصراع الاجتماعي لن يتوقف مادام يحمل هموم عامة ويتبنى قضايا عامة، اذ يشهد البلد صراعا محتدما بين طغمة الحكم الماسكة بالسلطة، باعتماد الطائفية السياسية، المتمسكة بمنهج المحاصصة، الناهبة للمال العام عبر صفقات الفساد، وارتضت ان تكون امتداد للمصالح الدولية والإقليمية على حساب مصالح العراق والقرار الوطني المستقل، لا هوادة في الصراع بين سلطة الأقلية “الأوليغارشية” وبين شعب سلبت حقوقه ونهبت أمواله.
الصراع بين المحرومين وسارقي أحلامهم هو صراع لا يمكن إيقافه، وإذا لم يتجاوب الناشطون الذين تصدروا الكفاح في انتفاضة تشرين، وإذا لم تستجب تشكيلاتهم السياسية لشروط الصراع ومتطلباته، وابتعدوا عن ساحة الصراع الأساسية، فهذا لا يعني انكفاء الصراع وانتهاء المجابهة، بل سيستمر ويأخذ أشكالاً أخرى، ويخلق أطره الجديدة، وستبرز قيادات شابة جديدة تتصدى للمهمات الكفاحية.
إنَّ ما تقدم يضع الجميع أمام مسؤولية تاريخية تتطلب الابتعاد عن النزعات الفردية والامزجة الشخصية والانفعالية، والاقدام على الخطوة المرتقبة.
وبهدف معرفة المعوقات التي تعترض الاتفاق على التنسيق والعمل المشترك، تبرز أمامنا عدة عوامل، نطرحها هنا بملموسية ووضوح تام مع الجرأة المطلوبة للتأشير على مكامن المسؤولية بعيداً عن الجمل المنمقة واللغة المائعة والأسلوب المجامل.
1. إعلام المتنفذين وجيوشهم الإلكترونية الهادفة إلى تزييف الوعي وبث الفرقة والانقسام والتركيز على عوامل الاختلاف والمبالغة فيها. فمن غير المتوقع أن يكف المتنفذون عن مواصلة كل الأساليب والوسائل التي من شأنها إضعاف المعارضة الشعبية.
2. القصدية بإشاعة اليأس في أوساط الشباب من أي امكانية تغيير، والتعرض لزخم الوعي التغييري الذي أطلقته الانتفاضة الباسلة، والتقليل من شأن ما صنعه شباب العراق كفجر جديد يبشر بإمكانية حدوث التغيير وقدرة الإرادة الشعبية على صناعته.
3. دور طغمة الحكم ونفوذها الذي أمتد إلى داخل بعض التشكيلات، سواء باختراق بعضها، أو تلك التي تشكلت باسم الانتفاضة وشبابها لمصلحة طغمة الحكم وبتمويلها حتى غدت امتداداً لها، إذ لا يخفى على أحد أنّ قوى السلطة لم تدّخر أي أسلوب يمكن استخدامه من أجل مصالحها المتمثلة ببقائها بالسلطة.وقد لوحظ في الفترة الاخيرة اهتمامها بتشكيل وتسجيل أحزاب جديدة بالجملة، تحمل أسماء المدنية والانتفاضة والإصلاح والتغيير.
4. اتساع ظاهرة التنظيمات السياسية الشبابية وكان يمكن أن يحتويها تنظيم سياسي واحد او في الأكثر تنظيمان، وهذه ظاهرة سلبية، وقد أصيب بعض الشباب بنفس امراض الأحزاب القديمة وظاهرة تشظيها، ضمن ظاهرة تشويه الحياة الحزبية التي هي مشوهة أصلاً.
5. وَهْم القوة الخارقة التي وقع بها بعض الناشطين، وعدم حساب قوى الخصم وإمكانياته وأساليبه. إذ لا يمكن لأي قوة من تحقيق أهدافها دون حساب إمكانياتها، ومعرفة العوائق والمخاطر التي تكتنف طريقها، وتعيق مسيرها، والتحديات التي ستواجهها. ومن الصعوبة بمكان تحقيق انتصار في غياب معرفة قوة وإمكانيات خصمك، وحسابها بدقة من أجل التغلب عليها عبر تحشيد القوى واستثمار جميع الطاقات.
6. نقص الخبرة السياسية والضعف الفكري للعديد من الناشطين الشباب، ما يفوت عليهم فرصة التغلب على ألاعيب المتنفذين ومناوراتهم وتميزهم بتناسي خلافاتهم، وتأجيل صراعاتهم، حال استشعارهم أي تهديد يوجه لوجودهم بالسلطة
7. عدم التفريق بين الصراع الأساسي والصراع الثانوي، إلى جانب النظرة القاصرة لفهم طبيعة الصراع وابعاده مع طغمة الحكم التي ترسخ وجودها في النظام السياسي ونفذت في مواقع والدولة، بما عرف بالدولة العميقة.
8. تركيز البعض على الصراع الأيديولوجي في غير مواقعه، فللصراع الأيديولوجي ساحاته الخاصة، المؤتمرات العلميّة والورش والمجالات الفكرية والمجلات والكتب، والانتباه بعدم جر النقاش إلى الميدان العام على أن الموضوع هو صراع ديني- مدني، كي لا يفهم بأن صراع المدنيين يتركز حول الدين، بل المطلوب إظهار الاحترام للمتدينين الذين لا يستغلون الدين في المكاسب الضيقة والفساد السياسي، كذلك عدم افتعال الصراع وكأنّ أساسه هو صراع أجيال، فمزاوجة الخبرات مطلوب، خبرة الكبار وحيوية الشباب.
9. بروز ظاهرة حب التزعم عند بعض الناشطين البارزين والأنا المتضخمة والأنانية وضيق الأفق، ونزعة اليساروية (اليسارية الصبيانية)، هذه الصفات التي تناقض القيم الثورية المعطاءة وروح التضحية ونكران الذات التي كانت من أبرز سمات انتفاضة تشرين.
10. خطأ حصر الانتفاضة واختزالها بالتشكيلات السياسية التي أعلن عنها خلال الأشهر السابقة. فالانتفاضة أوسع من كل الأطر السياسية والمدنية، فقد شملت أوسع قطاعات الشعب، والغالب من الناس لم تنتظم بهذه التشكيلات وهناك من يُشكل على كلّ أنواع التنظيمات السياسية، فالانتفاضة لم يطلقها أحد مهما علا شأنه، ولم يوجهها طرف مهما بلغت امكانياته، بل هي حركة شعب رفع مطالبه بالعيش الكريم وعبر عن إرادته الحرة.
11. نستخلص مما تقدم بأنه لا يمكن لقوة مشتتة إحراز نصر على طغمة تتحكم بالسلطات الواسعة، وتستعمل كل الإمكانيات من أجل بقائها بالسلطة، لذا لا طريق أمام قوى التغيير بالمعنى العام لها، سوى تنسيق جهودها في إطار سياسي مرن، يستوعب كل من له مصلحة بتغيير موازين القوى.
وكي لا تكون الدعوة فضفاضة وتستغل من قبل طغمة الحكم وامتداداتها لا بد من الاتفاق على رؤية واضحة، تنطلق من المواطنة كأساس لبناء النظام السياسي الديمقراطي الحقيقي، الذي يحفظ الحقوق ويصون الحريات ويحقق العدالة الاجتماعية. يرسم في ضوئها برنامج سياسي ومنهاج عمل، ويمكن لنا صياغة الرؤية من خلال استعراض أهم مطالب الانتفاضة التي يمكن حصرها كما في أدناه:
1. الخلاص من المحاصصة عبر إعادة بناء النظام السياسي على وفق مبدأ المواطنة.
2. محاربة الفساد ومحاكمة حيتانه.
3. تعزيز بناء المؤسسات الأمنية ومركزة قيادتها، وحصر السلاح بيد الدولة.
4. تنويع اقتصادات العراق وإطلاق برامج التنمية المستدامة.
5. تحسين الوضع المعيشي وتطبيق مفردات العدالة الاجتماعية.
6. إقامة علاقات خارجية تستند على المصالح المشتركة، بعيداً عن نهج العدوان والتدخل بالشؤون الداخلية.
الخلاصة التي يمكن ايجازها مما تقدم هو ضرورة شروع شباب الانتفاضة بالتنسيق مع بعضهم البعض، وفتح حوارات جادة مع القوى والأحزاب الوطنية التي لم تتقاسم الخراب والتخريب مع السلطة القائمة، وأن يكون هذا السعي بروح بناءة تضع الأهداف الكبرى كموضوعات سياسية وتعبوية نصب عينها، مركزة على القضايا التي هي مصدر إجماع، ولا تثير أي خلاف، وتسرع في تشكيل اطار تحالفي مفتوح لكل تنظيم او شخصيتفق مع رؤية التحالف، شرط نزاهته من المال العام ونظافة يده من الدم العراقي، ولديه استعداد للانخراط بالكفاح السلمي ودعم الأنشطة العامة من اجل التغيير، بحيث يستوعب كل قوى الانتفاضة والقوى المدنية الديمقراطية، بمختلف اتجاهاتها السياسية ومتبنياتها الفكرية، مع ضرورة الانتباه إلى أية محاولة اختراق تقوم بها قوى الفساد عبر زج أحزابها في هذا الإطار، وإبعاد الانتهازيّين الذين يطمحون في النهاية إلى غايات شخصية، لا يربطها رابط مع أهداف التغيير الحقيقي المنشود. مع ضرورة الخلاص من الأمراض المستفحلة في التيار المدني ومنها التحسس، والشخصنة، وروح التزعم، والتشرذم، والانشطارات التنظيمية. وهذه الأمراض ينبغي أن يكون البديل عنها الانطلاق من روح الانتفاضة وقيمها، حيث التضحية ونكران الذات والعمل المشترك وتفعيل العقل الجماعي. إن من يهمل هذه الخطوة الأساسية المطلوبة والمنشودة، فخطأه جسيم لا يغتفر، إذ لا يجوز حدوث هذا الخطأ بعد التضحيات الجسام، التي قُدمت من أجل الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.ش