بقلم: د.وحيد عبدالمجيد – الاتحاد الإماراتية
الشرق اليوم- لم تعد أزمة الاتحاد الأوروبي خافيةً على بعض حكومات دوله الأعضاء، فالنقد المُوجه ضد المؤسسات التي تُديره يزداد على المستوى الشعبي، وليس فقط في أوساط الأحزاب والاتجاهات السياسية الشعبوية. ولقد شجّع خروج بريطانيا منه، ونجاحها في تحمل التداعيات الاقتصادية للانفصال عن كيان كبير وسوق ضخمة تضم أكثر من 500 مليون مستهلك، معارضيه على المضي قُدماً في مساعيهم إلى تشكيل كُتل مجتمعية أقوى في دول عدة لدعم مطلب الانسحاب منه.
ولهذا تكتسب مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أهميةً كبيرةً رغم أنها جاءت متأخرة. فقد أطلق حملةً للتفاعل مع المواطنين تحت عنوان مُنتدى مستقبل أوروبا، بُعيد توقيع مؤسسات الاتحاد (المفوضية والمجلس والبرلمان) إعلاناً في هذا الشأن، وإقامة منصة إلكترونية تُعرض عبرها تصورات الأوروبيين حول المستقبل الذي يبدو غامضاً اليوم. وكان لإطلاق هذه المبادرة في 9 مايو الماضي دلالة رمزيةً لافتة، فضلاً عن أهميتها الفعلية، لأنه اليوم الذي أُعلنت فيه أول مبادرة لتأسيس كيان أوروبي جامع قبل 71 عاماً، وكانت مبادرةً فرنسيةً أيضاً.
غير أن الظروف التي تُحيط مبادرة ماكرون مختلفة تماماً عن تلك التي أتاحت نجاح مبادرة وزير الخارجية الفرنسي الأسبق روبرت شومان عام 1950. كانت دول غرب أوروبا في أشد الحاجة إلى التعاون بينها، لإعادة بناء ما دُمر في الحرب العالمية الثانية. وكان الدعم الشعبي قوياً لإقامة كيان أوروبي، خاصةً أنه بدأ اقتصادياً في لحظة سادها الأمل في تسريع جهود التعافي من أزمات طاحنة واجهت مختلف الفئات الاجتماعية في بعض الدول الأوروبية.
الظروف اليوم مختلفة تماماً. لم يعد كثير من الأوروبيين يشعرون بحاجة إلى الاتحاد الذي يجمعهم، بل يرى بعضهم أن أضراره باتت تفوق منافعه، وأن مؤسساته تعمل لمصلحة فئات محدودة في دوله. ويزداد هذا الاتجاه النقدي في الدول صاحبة الاقتصادات الأقوى، خاصةً في أوساط فئاتها المجتمعية التي يضرها انتقال العمالة من دول الاتحاد الأقل تقدماً وثراءً، وقبول العاملين القادمين أجوراً أقل وظروف عمل أكثر صعوبة. وتتعرض المفوضية الأوروبية، وهي بمثابة الذراع التنفيذية للاتحاد، لأكبر قدر من النقد، بعد أن توسع دورها منذ الأزمة المالية الاقتصادية الكبيرة التي بدأت في 2008-2009، واتجاهها إلى فرض إجراءات تقشفية قاسية على الدول التي طلبت مساعدتها.
وامتد التذمر من دور هذه المفوضية، وغيرها من مؤسسات الاتحاد، إلى قطاعات أوسع نطاقاً في عدد أكبر من الدول، ضمن التداعيات المترتبة على جائحة كورونا. فقد تأخرت المفوضية في إغاثة الدول التي تدهور الوضع الصحي فيها خلال موجة الجائحة الأولى في ربيع العام الماضي، وازداد الاعتقاد في أنها تضع الحسابات الاقتصادية والمالية فوق مواجهة الجائحة. وتجدد النقد في أوائل العام الجاري بسبب بطء تحرك المفوضية على صعيد التعاقد مع الشركات المنتجة للقاحات المضادة لفيروس كورونا.
ولعل أهم ما يُميَّز مبادرة ماكرون، والحال هكذا، أنها تفتح باباً للتفاعل مع أوروبيين بلغ إحباط بعضهم من أداء مؤسسات الاتحاد ذروته، وتُمكنهم من طرح تصوراتهم وأفكارهم لإصلاحه، بعد أن بقوا مُستبعدين من كل ما يتعلق به. ولكن السؤال المهم الذي لا تتيسر الإجابة عنه الآن يتعلق بالأثر الفعلي لهذا التفاعل، وإمكانات إجراء إصلاحات في هياكل لا يبدو أن لديها من المرونة ما يُتيح تطوير أدائها، ومدى استعداد قادة وحكومات دول أوروبية أخرى لاستخلاص اتجاهات حقيقية من التصورات التي ستُطرح، والتعاون مع ماكرون إذا أُعيد انتخابه في مايو 2022، أو تبني ما بدأه وإكماله إذا غادر قصر الإليزيه العام القادم.