بقلم: د. عصام عبدالفتاح – المصري اليوم
الشرق اليوم – تتسم الدبلوماسية المصرية بخبرة واسعة في معالجة النزاعات المعقدة التي تنشب من حين إلى آخر في الشرق الأوسط وفي القارة الإفريقية. فقد خاضت هذه الدبلوماسية العريقة معارك شائكة من أجل حسم مشكلات مستعصية كانت خليقة بأن تُفضي إلى كوارث جمة في أماكن نشوئها لولا وساطة الدبلوماسية المصرية فيها ودورها الحيوي في فض النزاعات والحروب ودعوة المتخاصمين للحوار.
والمرء ليحير حقًا أمام مشكلة كَأْدَاء تشغل الرأي العام كله ولا يكاد يمضي يوم دون أن نقرأ بشأنها تحليلًا يسعى إلى دراسة الاحتمالات المتاحة أمام الدبلوماسية المصرية لحل مشكلة سد النهضة في وقت تُصر فيه إثيوبيا في عناد لا نظير له على تنفيذ الملء الثاني للسد، والسير قدمًا في إنجاز المشروع مهما بلغت فداحة الأضرار التي سيجرها على السودان ومصر. ولم يعد خافيًا على أحد أن الدبلوماسية المصرية قد حطمت رقمًا قياسيًا في سياسة ضبط النفس وفي تجسيد القيم الحضارية الأصيلة التي يرتكز عليها القانون الدولي والعرف والأخلاق، وبخاصة حينما يتعلق الأمر بالعلاقات بين الدول والشعوب التي ترتبط فيما بينها بروابط تاريخية وجغرافية واقتصادية.
ومن ناحية أخرى لا يفتأ المرء أن يتعجب بشدة أمام العناد الإثيوبي الذى لم تفلح كل الوسائل الدبلوماسية في التخفيف من حدته، بل لم يكترث ألبتة لبيان الإدارة الأمريكية على لسان وزير خزانتها في العام الماضى، حينما انتقد بشدة الحكومة الإثيوبية في تعنتها وتهربها من أي التزام قانوني. ولئن كانت أقلام عديدة تشير إلى تضاؤل فاعلية الحل الدبلوماسي وترى في الحل العسكري حلًا ناجعًا بعد أن بات يقينيًا أن مصر هبة النيل لن تفرط في نقطة مياه واحدة من نصيبها فيه لأن قضية المياه بالنسبة لها تعد قضية وجود، فإن وضع رؤية مستقبلية لتطورات الأزمة يقتضي التفكير العميق في علامات الاستفهام الخاصة بالموقف الإثيوبي وتحديه الصارخ للقانون والأعراف الدولية دون اكتراث حتى لمصالح دول الجوار.
ولعل السؤال المحوري هنا هو: ما هى القوى التي يعتمد رئيس الوزراء الإثيوبي على مساندتها له في حالة إذا لم يعد أمام مصر والسودان مفر من اللجوء إلى الحل العسكري؟ لقد راود هذا السؤال كثيرًا من الباحثين. والتقت إجاباتهم كلها تقريبًا في تحديد هذه القوى بالدول التي تساهم بصورة أو بأخرى في بناء السد أو ستستفيد منه استفادة جمة في استثماراتها ومصالحها، مثل الصين وتركيا وبعض الدول العربية.
ولا يماري أحد في أن أهم المستفيدين من بنائه هو إسرائيل. لماذا؟ لأنها أولًا تعانى من نقص شديد في موارد المياه لديها، وبخاصة في بحيرة طبريا التي تغذي مستوطناتها بالمياه في الأراضي المحتلة. إذ تقول بعض المصادر إن إسرائيل تحتاج إلى أكثر من 600 مليون متر مكعب من المياه سنويًا لضمان إعاشة مستوطناتها المتزايدة، وأنها ستعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة لن تتمكن من مواجهتها إن لم تدبر حلًا عاجلًا يضمن لها مصدرًا مستديمًا للمياه. وهي بطبيعة الأمور لن تجد حلًا أفضل من إشعال نزاع بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة وخلق وجود لها في إثيوبيا تتمكن بواسطته من تحقيق الحلم الكبير الذي لم يفتأ يداعب مخيلتها منذ الأزل، ألا وهو فتح الطريق أمام جزء من مياه النيل إلى الأراضي المحتلة.
وثانيًا لأن تثبيت وجودها في إثيوبيا سيمكنها من تقوية علاقاتها بالدول الثلاث: إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي، فتستطيع بذلك تفجير النزاعات الإقليمية في البحر الأحمر، والظفر بنفوذ وثقل لا يُستهان بهما في منطقة استراتيجية مهمة. حينما دُعى بنيامين نتنياهو لزيارة إثيوبيا في شهر يوليو عام 2016 إبان افتتاح المرحلة الأولى من بناء سد النهضة ألقى خطبة أعلن فيها تأييده الكامل لمشروع سد النهضة من أجل الاستفادة من موارده المائية، كما زودت إسرائيل إثيوبيا بنظام من الصواريخ لحماية السد لعلمها أن سد النهضة سيكون لدول الجوار سدًا للنكبة.