بقلم: مصطفى نعمان – اندبنت عربية
الشرق اليوم– كان الهدف الرئيس من الاتفاق الموقع بين الحكومة والمجلس الانتقالي في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، حشد القوى المناوئة لجماعة أنصار الله الحوثية، بأمل التعاون على استقرار الأوضاع الخدمية والأمنية في عدن، كي تصبح مستقراً للرئيس والحكومة التي تشكلت بصعوبة شديدة بخطوط حزبية – مناطقية، بعد ضغط هائل من الرياض.
لم تتمكن النصوص من الصمود، ولم يتم أي انجاز عملي للتخفيف من المعاناة الناجمة عن انهيار منظومة الخدمات الأساسية وعرقلة عمل المؤسسات الرسمية. وفي مسعى متجدد إلى إنقاذ “اتفاق الرياض” وتقليص الهوة التي تتسع بين طرفيه، وجهت السعودية الدعوة لوفد من المجلس الانتقالي للحضور إلى الرياض للتباحث حول كل ما يعرقل تنفيذ بنوده.
من الجلي أن “الاتفاق” عجز عن توفير مناخ سياسي يسهم في خلق توافق بين طرفيه، لأنه لم يعالج الأهداف النهائية المختلفة حد التناقض، ولم يتمكن من إنهاء المواجهة التي ما زالت ماثلة أمام الجميع، لأن الفجوة هائلة بينهما. حالياً يمارس المجلس الانتقالي سلطات لا يخولها له الدستور الذي أقسم وزراؤه أمام الرئيس هادي في الرياض على احترامه والعمل بنصوصه، ويصر المجلس على تفسيره بأنه حصر صلاحيات للحكومة في حدود تحسين الخدمات المحلية وصرف الرواتب، وأنها غير معنية بالقضايا السيادية.
وعلى الرغم من استسلام رئيس الحكومة لهذا الوضع، الا أنه لم يسهم في تخفيف الاحتقان المتراكم والممنهج سياسياً، فتم اقتحام المنطقة التي يسكنها الوزراء داخل مدينة عدن، مما دفع عدداً منهم إلى العودة إلى مساكنهم في الرياض والقاهرة.
لا يخفي المجلس الانتقالي هدفه النهائي: المطالبة بالانفصال، أو فك الارتباط، أو استعادة الدولة، أو قيام دولة يمنية اتحادية مرحلياً بين إقليمين جنوبي وشمالي. هذه قضية ما عادت تشغل بال من تطحنهم رحى متواليات الحروب، بل إن كثيرين في شمال اليمن ما عادوا متشبثين بموقف حدي إزاء الرغبة الجامحة والمتصاعدة في جنوب اليمن بالانفصال، وصاروا يتعايشون مع تداعيات الشحن والعنف اللفظي والجسدي كواقع وقدر محتوم.
كان من نتيجة التشظي في كل الاتجاهات أن جميع الأطراف فقدت القدرة الكافية على الحسم والحفاظ على الحد الأدنى من تماسك النسيج الاجتماعي الذي تزيد الحرب تمزيقه، وما عاد الحديث السياسي الساذج والشعارات البراقة بصيغتها العاطفية وغير العقلانية كافية لمعالجة الأوضاع وتغييرها، كما يتحدث ويصر المزايدون.
لقد عجزت الحكومة عن تقديم ما يسهم في ترحيب المواطنين بوجودها ومساندة تحركاتها، بسبب الفساد وسوء الأداء وعدم الكفاءة، فصار بقاؤها عامل إنهاك واستنزاف لرصيد الشرعية، ولم يكن أداؤها يوماً متناسباً مع مقتضيات مرحلة شديدة الحساسية، واستغل المجلس الانتقالي نقمة الرأي العام لزيادة رصيده في الشارع مؤقتاً، لكنه في الوقت ذاته لم يظهر قدرة على القيام بأية مهمة تخفف معاناة الناس اليومية، مكتفياً بالعمل على تأمين تبعية الأجهزة الأمنية والإعلامية، وهذا سيسبب انفصاماً في الولاء داخلها، موزعاً بين طرفي الاتفاق بخطوط مناطقية.
سيظل الاتفاق غير ناجز بسبب عدم النظر إلى مجمل الأزمة وأسلوب إدارتها، فقد عالج ظواهر الخلاف لكنه تغاضى عن حيوية وأهمية فرض وجود الرئيس وكل المؤسسات داخل أي بقعة في اليمن، لأن غيابه وغيابها لا يمكن، بحال من الأحوال، أن يسهم في تطبيق الاتفاق على الأرض.
يقول البعض إن عودة الرئيس هادي قد تسبب انفجاراً، ويعزوا البعض غيابه إلى عدم قدرته على مواجهة متطلبات الناس، وآخرون يقولون إنه ممنوع من العودة. في كل الأحوال لا يمكن القبول بالتبريرات، لأنها تعني ببساطة عدم قدرة كل المؤسسات الشرعية على القيام بواجباتها، وعجزها عن تقديم ما يحتاجه المواطن. أي أنها ببساطة تجسيد لفشل ذريع وعجز فاضح، وعليها الاعتراف بهما.
كان السبب الحقيقي الذي دفع الرياض للدعوة إلى الاتفاق، ومن ثم الإعلان بعد عام من التوقيع عليه عن آلية تنفيذه، مرتبطاً بالتحركات الإقليمية والدولية التي تضغط لوقف الحرب وبدء المفاوضات بين طرفيها، لكن العقدة التي ربما غابت عن الجميع هي أن الاتفاق أعطى “الانتقالي” الشرعية السياسية للمشاركة في المشاورات المقبلة لإنهاء الحرب، لكنه لم يمنحه صفة مستقلة فيها، فجعله ضمن وفد الحكومة المعترف بها دولياً، وهذا وضع سيخلق مشهداً استثنائياً، لأنه من غير المعقول وغير المنطقي ذهاب وفد مشترك يدعو فصيل فيه إلى الانفصال، بينما الآخر متمسك بالوحدة، ونتيجة ذلك أن تشكيل وفد مشترك سيلقي بظلال شك على نجاح الأمر، وسيصبح معضلة ضاغطة على مخططي الاتفاق، وعليهم التفكير فيها وبحثها باكراً.
من الضروري القول إن قرارات رئيس المجلس الانتقالي لتثبيت أوضاع معينة على الأرض تزيد توتر الأجواء، وارتباك الساحة السياسية المبعثرة، ولا تسمح بتنفيذ الاتفاق بل تضعه في مهب الريح، وستقود إلى مزيد من التعقيدات، وفي الوقت نفسه ستكون محرجة سياسياً لرعاة الاتفاق في الرياض، والتي سيكون عليها بذل جهود كبيرة للتعامل مع القضية، ولا يعني ذلك تبرير صمت الحكومة وعجزها عن حماية الدستور والدفاع عن حقوقها، وتقديم كل ما هو مناط بها أخلاقياً ووطنياً، فقد أدى فشل الرئيس وحكوماته المتعاقبة في تحقيق تحوّل إيجابي لأحوال الناس المعيشية، داخل المناطق التي لا يوجد فيها الحوثيون، إلى إضعاف الشرعية شعبياً، وخلق فراغات كبيرة لأطراف متعددة لملئها بحريّة ومن دون قيود، عبر مصادر تمويل وتسليح تعطيها نفوذاً في الرقعة الجغرافية التي توجد فيها، بوهم أن ذلك سيتيح لها حضوراً سياسياً في المستقبل.
هذا الأمر يزيد تقليص نفوذ الشرعية، ويضعف قدرتها على الذهاب إلى مفاوضات لا تمتلك فيها الغلبة على الأرض، ناهيك عن انحسار قبولها شعبياً.