بقلم: وليد فكري – سكاي نيوز
الشرق اليوم- عندما بدأ العدوان التركي على شمال سوريا الشقيقة، لم يكن من المُستَغرَب أن نرى بعض من يقدمون أنفسهم كمشتغلون بالتاريخ من شباب جماعة الإخوان الإرهابية الفارون بالخارج يقدمون “الدعم التاريخي” لهذا العدوان.. إلى حد قيام أحدهم -وهو شاب إخواني مقيم بتركيا يقدم نفسه باعتباره متخصصًا في العثمانيات- بكتابة المنشورات الداعمة والمؤيدة لهذا العدوان ولجرائم الجيش التركي في سوريا على صفحته على موقع فيسبوك.
المسألة هنا لا تقتصر على مجرد منافقة النظام الأردوغاني الذي يعيش هؤلاء في كنفه، بل أنها تمثل ما هو أكثر خطورة.. بل لا أراني أبالغ إن قلتُ أن هذا الحماس منهم للعدوان التركي على سوريا إنما منطلقه عداءهم لمصر نفسها!
بلى، فأي قارئ للتاريخ يدرك أن الأمن القومي المصري نطاقه يمتد لأبعد بكثير من الحدود الرسمية لجمهورية مصر العربية، وأن “شمال سوريا” هي منطقة شديدة الحساسية بالنسبة لأمننا القومي.
فمنذ عصر الحضارة المصرية القديمة -تحديدًا منذ قيام الملك أحمس بطرد الهكسوس من مصر- أدركت مختلف الأنظمة الحاكمة لمصر أن من يمتلك مفاتيح شمالي سوريا يضع نفسه في موضع تهديد لحدود مصر الشرقية، وهذا لأن شمالي سوريا يتحكم بشبكة الطرق المؤدية إلى باقي بلاد الشام ومنها إلى مصر مباشرة.
بناء على ذلك حرص ملوك مصر القديمة -وعلى رأسهم الملوك المحاربين كتحتمس الثالث وسيتي الأول ورمسيس الثاني- على حماية أمن شمالي سوريا وبلاد الشام من أي عدوان-والذي تمثل آنذاك في دولة الحيثيين في جنوبي الأناضول-باعتباره يمثل تهديدًا مباشرًا لمصر، إلى حد خروج تحتمس الثالث بنفسه في حملة عسكرية بلغت ما بعد شمالي سوريا، وخروج رمسيس الثاني بعده بسنوات طويلة في حملته الشهيرة ضد الحيثيين في قادش وفي حملات تالية ألزمت العدو طلب السلام والتعهد بوقف الاعتداءات.
وامتدت تلك السياسة كخط تاريخي مستقيم عبر العصور المختلفة، وكان سقوط تلك المنطقة من بلاد الشام في أيدي أعداء مصر ينذر بتعرض أمنها لكارثة، أخطرها في التاريخ القديم الاحتلال الروماني، فإن الذي مهد لاحتلال الرومان مصر كان سيطرة القائد الروماني بومبيوس على ممتلكات الدولة السلوقية البائدة في شمالي سوريا، ومنها طرق المواصلات، وهو ما سهّل بعد ذلك مهمة أغسطس قيصر في غزو مصر وضمها للإمبراطورية الرومانية.
وفي التاريخ الوسيط نرى أمثلة أقوى لتأثير طرق شمالي سوريا على أمن مصر، خاصة خلال فترة الحملات الإفرنجية المعروفة بـ”الصليبية”، فسيطرة الفرنجة على مدن هامة مثل “الرها” و”أنطاكية”(ولنلاحظ هنا أن جنوبي تركيا الحالية هو تاريخيا شمالي سوريا قديما) مهدت لتوغلهم إلى حد تهديد مدن مثل حمص وحلب ودمشق واحتلال بيت المقدس وتهديد مصر منها إلى حد نجاح قوات الملك الفرنجي أمالريك الأول في التوغل إلى قرب العاصمة القاهرة في العصر الفاطمي.
وبقيام الدولة الزنكية في الموصل وحلب انقلبت الآية وأصبح المسلمون والعرب هم من يهددون المحتل ويجبرونه على الانحصار في الشريط الساحلي، ومن هذا المنطلق أدرك الأيوبيون -ورثة الدولة الزنكية- ضرورة تأمين شمالي سوريا من أية تهديدات -تمثلت آنذاك في البيزنطيين وكذلك في سلاجقة الروم الطامعين في التوسع على حساب جيرانهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين- ولهذا كان إقليم “الجزيرة الفراتية” -الممتد بين شمال شرقي سوريا وشمال غربي العراق وجنوب شرقي تركيا الحالية- من أهم نقاط الدفاع عن أمن الدولة الأيوبية التي ضمت مصر والشام معًا، إلى حد أن السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب كان قد أرسل ابنه وولي عهده توران شاه لـ”حصن كيفا” من هذا الإقليم لمراقبة الحدود وضبطها.
ولنفس الأسباب استشعر السلطان المملوكي قطز الريبة من طلب بيبرس منه ولاية حلب، فحلب كانت تشرف على مساحة واسعة من شمالي الشام معروفة بـ”الديار الحلبية” ومن يتملكها يسهل عليه تملك الشام وتهديد مصر.. ولهذا أيضًا ماطل قطز في تنفيذ هذا الطلب لبيبرس الطموح.
ومن نفس المنطلق مثل بعد ذلك اجتياح تيمورلنك لجنوبي الأناضول ثم لشمالي سوريا خطرًا كبيرًا على السلطة المملوكية في القاهرة، فالأمر لم يقتصر على مجرد أنه قد اعتدى على بعض مدن “الديار الشامية” من دولة المماليك بل أنه قد كان حدثًا مثيرًا لذعر العامة الذين أدركوا أن تيمورلنك إن لم يُطرد من تلك المنطقة فإنه عما قريب يثب على مصر ويملك القاهرة.
وقد حاول العثمانيون استغلال تلك الخطورة لشمالي سوريا لتهديد أمن مصر خلال عهد السلطان بايزيد الثاني الذي تحرش بالإمارات التركمانية في جنوبي الأناضول-والتي كانت تابعة آنذاك للقاهرة- ثم حاول الاعتداء على الديار الحلبية، لولا تصدي السلطة المملوكية -في عهد السلطان الأشرف قايتباي- له وتوجيه حملات ضده توغل بعضها في بلاد العثمانيين واضطرهم لطلب السلام.. ولكن لأن خلفاء قايتباي لم يكونوا على قدر المسؤولية، فقد استغل السلطان العثماني سليم الأول ذلك لتكون خسارة المماليك لشمالي سوريا بهزيمتهم في موقعة مرج دابق هي بداية النهاية لاستقلال مصر التي سرعان ما داهمها المحتل العثماني.
وفي التاريخ الحديث نجد انقلابًا للآية مع استمرار تطبيق نفس نظرية “طرق شمالي سوريا”، فبتملُك القائد إبراهيم باشا بن محمد علي باشا لشمالي سوريا سرعان ما صار طريقه مفتوحا إلى عاصمة العثمانيين نفسها والتي كاد أن يثب عليها لولا استمهال أبوه له وتدخل القوى الأجنبية.
ويبدو أن التنظيمات المتطرفة لا تقل اطلاعا على التاريخ عنا، فتنظيم داعش الإرهابي لم يكن استهدافه السيطرة على شمالي سوريا عبثا بل إدراكا منها لأن ذلك الجزء من سوريا هو المسيطر على شبكة طرق استراتيجية هامة في المنطقة.
لكل ما سبق أقول بثقة أن دعم وتأييد الإخوان لأية اعتداءات أو أطماع تركية في شمالي سوريا يتجاوز مجرد الدعم لنظام تربطهم به علاقات مصالح بل هو دعم وتأييد لتهديد أمن مصر التي يناصبونها العداء.
لهذا لم يكن من المستغرب أن أرى بعضهم يُظهر الشماتة بمقتل مواطنين سوريين على أيدي القوات التركية، ولا أن يضع بعضهم بشكل صريح علم تركيا في تعليقاته ومنشوراته ويدعو بالنصر لأردوغان.. ولا أن يحاول البعض الآخر -وهم الأكثر خبثا- أن يضعوا منشورات من وقت لآخر تمتدح الحكم العثماني لسوريا وتداعب النوستالجيا عند ضعاف الاطلاع على التاريخ الحقيقي للحكم العثماني، بحيث يخلق نوعا من “التقبل” لغزو بلد أجنبي لبلد عربي شقيق.
ولكن.. ماذا لو زدتك من الشعر بيتًا وقلت لك -عزيزي القارئ- إن جنوبي تركيا الحالية هو في الأساس شمالي سوريا وأن تركيا تحتل بالفعل داخل حدودها الرسمية أراضٍ سورية؟
للحديث بقية