بقلم: د. عبد الحق عزوزي – صحيفة الجزيرة
الشرق اليوم– بشهادة كل الخبراء والاستراتيجيين العالميين فإن عالم ما بعد كورونا سيكون مختلفًا تمام الاختلاف عن عالم ما قبل كورونا، وأضم صوتي إلى كل المتفائلين الذين يقولون إن الجائحة يجب أن تدفع الجميع إلى رؤية الأزمة والكارثة كفرصة حقيقية يمكن الاستفادة منها.
فالجائحة جعلت وستجعل كل الدول تضع استراتيجيات لتسريع الاستثمارات العامّة في مجالي الصحة والبنى التحتية… فصحة البشر هي واحدة من الأولويات التي لا يمكن تجاوزها ولا وضعها في سياسات عمومية ثانوية، كما أن الرصد المبكر للأمراض المعدية وللأوبئة وللجوائح ستكون من بين أولويات المرحلة خاصة إذا علمنا من تقرير أصدرته لجنة مستقلة للاستعداد للجوائح والاستجابة لها أنه كان بإمكان العالم تجنب جائحة كوفيد-19 إلا أن «مزيجًا سامًّا» من التردد وسوء التنسيق حال دون رؤية مؤشرات الخطر. وأفادت اللجنة المستقلة للاستعداد للجوائح والاستجابة لها بأن منظمة الصحة العالمية كان ينبغي أن تعلن حالة الطوارئ الصحية في وقت أبكر، مشيرة إلى أن هذا الأمر كان يجب أن يحدث خلال الاجتماع الأول للجنة الطوارئ في منظمة الصحة العالمية في 22 كانون الثاني/ يناير…
كما أن صحّة البيئة ستوازي صحّة البشر أهميّة وما يعني ذلك من التعامل الجاد مع التغير المناخي والقضاء على المخاطر التي تحدق بدول العالم من عواصف تزداد عتوًّا، وحرائق غابات متسعة، وفيضانات وموجات جفاف، وهي كلها مرتبطة بتغير المناخ، إضافة إلى تلوث الهواء نتيجة حرق الوقود الأحفوري؛ فسيكون هناك «نهج حكومي شامل» في أغلب دول العالم بل ستكون في قلب أمنها القومي وتخطيطها الداخلي؛ وقد رأينا مؤخرًا كيف أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن حزمة جديدة من الإجراءات التنفيذية للتصدي للتغير المناخي، أبرزها وقف إصدار عقود جديدة تتعلق بمشروعات النفط والغاز على أراض اتحادية، وقطع الدعم عن استخراج الوقود الأحفوري.
كما أن الروبوتات ستصبح منتشرة في كلّ مكان، ولاسيما أنها اليوم مستخدمة في كلّ القطاعات كأعمال التوصيل وإجراء فحوصات «كوفيد – 19» والخدمات الآلية وحتّى في المنازل؛ كما أنّ الخدمات الطبية الهاتفية باقية وستنتشر أكثر. ويقيني أيضًا أن العديد من الأعمال ستشهد تحولاً في هياكلها إلى الصيغة الرقمية، وأن قسماً كبيراً من التجارة والتفاعل والقوى العاملة سينتقل إلى العالم الرقمي أيضًا.
كما أن الطاقات البديلة ستكون موضة العالم المقبل؛ فالتقارير تشير إلى أن 27 دولة من الاتحاد الأوروبي تمكنت من إنتاج ما تحتاجه من الكهرباء بنسبة 40 % من الطاقة البديلة المتمثلة في طاقتي الرياح والشمس، لتتجاوز بذلك ما تم إنتاجه من الطاقة الأحفورية. كما أن قطاع النقل، على سبيل المثال، ممثلاً بصناعة السيارات والطائرات، سيعرف تغيرًا كاملاً في المستقبل القريب مع دخول السيارات والطائرات الكهربائية على الخط، وهو ما سيكون له تأثيرات هائلة على قطاع النقل، والطاقة، والخدمات.
وفي جانب التعليم، سيتغير هذا القطاع بشكل جذري وللأبد، وستكون الدول ملزمة بالنهوض بسياسات تعليمية جديدة، وتحويل بيئات التعلم، وبناء قدرات المعلمين، وتمكين الشباب وتعبئتهم، واتخاذ الإجراءات في المجتمعات، ومتابعة تقدمهم، وحصول الأجيال الجديدة على المعرفة والمهارات اللازمة لتعزيز التنمية المستدامة، من خلال التعليم من أجل التنمية المستدامة وأنماط الحياة المستدامة وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، وتعزيز ثقافة السلام، والمواطنة العالمية، وتقدير التنوع الثقافي ومساهمة الثقافة في التنمية المستدامة وغيرها من المسلمات التي تبني مجتمعًا عالميًا قادرًا على استيعاب الجميع وتحقيق التنمية. كما أن الدول ستبني استراتيجيات تأخذ بعين الاعتبار وظائف المستقبل في الزمن الرقمي وعصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطاقة البديلة والأوبئة والجوائح… فهنا يجب أن يتغير كل شيء في جامعاتنا وبالأخص العربية منها للتخطيط لسوق العمل في ظل وجود عدد هائل من الخريجين الذين تضعهم جامعاتنا ومعاهدنا سنويًا للأسف في سوق عمل لا يستوعبهم…
وهذا التعليم الجديد سيأخذ بعين الاعتبار المجتمع الرقمي الافتراضي كثير الانتشار ومتشعب التخصصات، فنحن أمام إنسان عالمي جديد، وهو إنسان افتراضي يمارس حياته بالكامل من خلال الاتصال بالشبكة؛ فهو يتعلم ويتاجر ويعمل ويتواصل ويشتري ويقرأ ويطالع من خلال الشبكة، فعالم الإنترنت لم يعد مجرد وسيلة، بل هو طريقة عمل وأسلوب حياة ستطبع كل جوانب المرحلة المقبلة.