بقلم: هشام ملحم – النهار العربي
الشرق اليوم– بعد حوالي خمسة أشهر من اجتياح مبنى الكابيتول في السادس من يناير الماضي، من قبل مئات الرعاع المتطرفين من أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، نسف الجمهوريون في مجلس الشيوخ المساعي الرامية الى تشكيل لجنة تحقيق برلمانية مستقلة ومشتركة من الحزبين، للنظر بعمق بدوافع ومضاعفات الاقتحام الدامي الذي هزّ البلاد وأدى الى سقوط خمسة قتلى وأكثر من مئة جريح.
وتأتي هذه النكسة للديموقراطية الأمريكية في الوقت الذي يواصل فيه الجمهوريون في عدد من الولايات التي يسيطرون على مجالسها المحلية محاولاتهم لتغيير القوانين المحلية للانتخابات، من خلال خلق العقبات والعراقيل البيروقراطية المصممة لإحباط الناخبين الذين ينتمون الى الأقليات. وتشمل هذه العقبات تقييد الانتخابات بواسطة البريد، أو الإصرار على أن يقدم الناخب الوثائق التي تثبت جنسيته، مثل رخصة قيادة السيارة (وهذا أمر متعذر للمسنين أو الذين لا يملكون السيارات) أو الانتخاب المبكر يوم الأحد (والذي يقلص من مشاركة الأميركيين المسنين من أصل أفريقي، والذين يتم نقلهم في الباصات الى مراكز الاقتراع بعد صلوات الأحد) وغيرها من القيود الإدارية. كما يتزامن تقويض لجنة التحقيق البرلمانية، مع استمرار عمليات “إعادة التدقيق” في نتائج الانتخابات الرئاسية في بعض المقاطعات الهامة في بعض الولايات، على الرغم من أن عمليات إعادة الفرز قد جرت ولأكثر من مرة في هذه المقاطعات أو الولايات، وذلك في محاولة سافرة لتأكيد ما يسمى “الكذبة الكبرى” التي يروّجها الرئيس السابق ترامب بأن الرئيس جوزف بايدن قد “سرق” الانتخابات منه.
وفي هذا السياق، يمكن اعتبار هذه النكسة للديموقراطية الأمريكية، انتصاراً تكتيكياً هاماً للرئيس السابق، الذي عارض بقوة تشكيل هذه اللجنة، لأنها ستؤكد التقويم السائد في الأوساط القانونية والسياسية بأن ترامب هو المحرّض الأساسي والمهندس الرئيسي للتظاهرة التي تجمعت قرب البيت الأبيض في ذلك اليوم، قبل أن تتحول الى مسيرة غاضبة باتجاه مبنى الكابيتول. وكان ترامب قد ألقى خطاباً غاضباً جدّد فيه “الكذبة الكبرى”، وطالب أنصاره بالسير باتجاه الكابيتول لرفض نتائج الانتخابات، وغرّر بهم عندما وعدهم بأنه سيرافقهم في المسيرة. بعد أقل من ساعة شهد محيط المبنى وأروقته اشتباكات عنيفة بين المتطرفين ورجال الشرطة، وشاهد ملايين الأميركيين صور المشرعين الذين يمثلونهم وهم يركضون هرباً من المهاجمين الذين كانوا يطالبون برأس رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، وحتى برأس نائب الرئيس مايك بينس لأنه لم يعرقل عملية التصديق على انتخاب جوزف بايدن خلفاً لترامب.
وبرر الجمهوريون بقيادة زعيم الأقلية السناتور ميتش ماكونال موقفهم بالادعاء أن “التحقيقات التي تجريها الشرطة كافية”، ولا داعي لتشكيل لجنة برلمانية مستقلة، كما حدث بعد هجمات سبتمبر 2001 الإرهابية. واستخدم الجمهوريون إجراءً برلمانياً لمنع مناقشة مشروع القانون، الذي يتطلب موافقة ستين عضواً من أصل مئة وليس الأكثرية البسيطة، وهذا يفسر إخفاق إقرار مشروع القانون على الرغم من أن 54 عضواً صوّتوا لمصلحته، من بينهم ستة جمهوريين. وكان مجلس النواب قد أقر مشروع القانون ذاته بموافقة 35 عضواً جمهورياً انضموا الى الأكثرية الديموقراطية.
الكاتبة السياسية سوزان غلاسير لخّصت هذه اللحظة العبثية التي تمر بها الولايات المتحدة في مقالة نشرتها في مجلة نيويورك بعنوان “الديموقراطية الأمريكية لم تمت بعد، ولكنها في الطريق” لهذا المصير، وأضافت “الدولة التي لا تستطيع أن توافق حتى على التحقيق في هجوم تعرّض له الكابيتول (الكونغرس) هي بالفعل في مأزق كبير”.
نسف التحقيق البرلماني باقتحام الكابيتول، إضافة الى أنه يؤكد حقيقة أن ترامب لا يزال القطب الأساسي في الحزب الجمهوري ويعزز أسطورة سرقة الانتخابات منه، يعكس أيضاً مخاوف المشرّعين الجمهوريين من أن يستخدم الحزب الديموقراطي ومرشحيه في الانتخابات النصفية في 2022 نتائج أي تحقيق تقوم به لجنة برلمانية مستقلة تؤكد مسؤولية ترامب الأخلاقية وربما القانونية عن الاجتياح، وتعليقها على رقاب المرشحين الجمهوريين، وتذكير الناخبين بما فعله ترامب وأنصاره لتقويض الديموقراطية الأمريكية.
موقف الجمهوريين في مجلس الشيوخ، لن يمنع رئيسة مجلس النواب الديموقراطية نانسي بيلوسي من إجراء تحقيق برلماني موسع في مجلس النواب بحوادث 6 يناير، ولكن الديموقراطيين كانوا يريدون تشكيل لجنة موسعة من الحزبين تعطى صلاحيات واسعة لاستدعاء الشهود للإجابة عن العديد من الأسئلة التي لا تزال معلّقة حول خلفية اجتياح الكابيتول ودوافعه، وما هي مضاعفاته المستقبلية.
ما يحدث الآن في الولايات المتحدة هو أن الحزب الجمهوري الذي جنح بشكل ملحوظ وفظ وسريع باتجاه الشوفينية والتعصّب السياسي والديني، كرد فعل غاضب ضد انتخاب باراك أوباما كأول أمريكي من أصل أفريقي في 2008، وكيف اكتسب هذا الجنوح غطاءً سياسياً “شرعياً” بعد انتخاب دونالد ترامب، هذا الحزب اليوم يشكل بأكثريته قوة سياسية أوتوقراطية تسعى – وهنا المفارقة – عبر أساليب برلمانية الى تقويض جوهر الديموقراطية الأمريكية.
الجمهوريون في الكونغرس رفضوا مرتين محاكمة ترامب وإقالته، على الرغم من الأدلة التي أظهرت انتهاكاته للدستور، ويوم الجمعة رفض الجمهوريون محاسبة ترامب على تحريضه لأنصاره لمهاجمة المؤسسة التي يفترض بهم أن يمثلوها وأن يتحدثوا باسمها. الجمهوريون رفضوا محاسبة الرجل الذي أمر أنصاره بمهاجمتهم داخل صرحهم.
يشهد الحزب الجمهوري منذ سنوات انكماشاً ملحوظاً في قاعدته الشعبية، التي أصبحت في معظمها من الناخبين البيض وما يسمى بالمسيحيين القوميين من المتحدرين من المهاجرين الأوروبيين، والذين ينظرون الى أنفسهم على أنهم الأحق في قيادة البلاد، لأنهم الورثة الشرعيون لمؤسسي الجمهورية الأمريكية. هؤلاء يرون في التغييرات الديموغرافية في البلاد، مثل نمو عدد الأقليات مثل الأمريكيين من أصل أفريقي أو لاتيني، أو المهاجرين من دول آسيا والشرق الأوسط من مسلمين وغيرهم، خطراً سياسياً وحتى وجودياً على الإرث الأوروبي (الأبيض) والمسيحي لمؤسسي الجمهورية الأمريكية والأجيال التي لحقتهم، قبل أن يبدأ وجه الأمريكي التقليدي (الأبيض) ودينه (المسيحي) بالتغير الى اللون الأسمر وشيوع أديان أخرى غير المسيحية في البلاد.
هذه التغييرات الديموغرافية التي جلبت معها تعددية سياسية وثقافية جديدة، تفسر المقاومة الشرسة التي تعّبر عنها قاعدة الحزب الجمهوري الضيقة عددياً، لأي تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية تتنافى مع رؤيتها الضيقة لتاريخ البلاد ومستقبلها. وهذا يفسر مثلاً تعلق الجمهوريين بتلك النواحي الإجرائية في النظام الديموقراطي الأمريكي، والتي تتنافى في الجوهر مع الديموقراطية بمعناها الواسع، وتحديداً نظام المجمع الانتخابي، الذي يعطي الولايات الصغيرة بعدد سكانها ثقلاً انتخابياً كبيراً لا ينسجم مع حجمها الديموغرافي الصغير. وهذا يفسر لماذا فاز رئيسان جمهوريان فقط بالاقتراع الشعبي منذ ثمانينات القرن الماضي: جورج بوش الأب في 1988 وجورج بوش الابن في 2004. وكان بوش الابن قد خسر الاقتراع الشعبي في سنة ألفين، كما خسر ترامب الاقتراع الشعبي في 2016 في معركته مع هيلاري كلينتون التي حصلت على أصوات حوالي 3 ملايين ناخب أكثر من ترامب، كما تفوّق الرئيس بايدن على ترامب في الاقتراع الشعبي بأكثرية 7 ملايين ناخب.
خلال المعركة الانتخابية، كان جوزف بايدن يردد دائماً أنه يسعى الى “استعادة” الديموقراطية الأمريكية، وأعاد العافية لها بعدما شوّهها ترامب، وأن هذا الصراع داخل أمريكا هو جزء لا يتجزأ من الصراع العالمي الراهن بين الدول الأوتوقراطية الصاعدة، (تحديداً الصين وروسيا) وانضمام دول مثل هنغاريا وتركيا كانت فيها مؤسسات ديموقراطية الى المعسكر الأوتوقراطي، والديموقراطيات في العالم التي تجد نفسها في موقع دفاعي، بما فيها أمريكا. الرئيس بايدن يدرك أن هذا الصراع بين الدول الديموقراطية والدول المتسلطة في العالم، سوف يحسم لمصلحة القيم والمؤسسات الديموقراطية، فقط إذا نجح الديموقراطيون في الولايات المتحدة (من ديموقراطيين حزبيين ومستقلين ومحافظين مؤمنين بالديموقراطية) في صيانة التقاليد والمؤسسات الديموقراطية في البلاد وتعزيزها، وصد هجوم اليمين الشوفيني والديني الذي يعمل على تقويض الإرث الديموقراطي الأمريكي ومنعه من التطور.