بقلم: فاروق يوسف – النهار العربي
الشرق اليوم– أخطأ الكثيرون حين اعتقدوا أن الولايات المتحدة لم تكن تملك فكرة عن مرحلة ما بعد الاحتلال وكيف ستُدار شؤون العراقيين ومَن سيديرها وفي أي اتجاه. لقد تم توزيع المهمات بين الفرقاء العراقيين الذي اعتمدتهم الولايات المتحدة في مؤتمر لندن عام 2002 بعد أن قامت أجهزة الاستخبارات بفحص مؤهلات كل فريق وموهبته في التعبير عن ولائه للمشروع الأميركي الذي استند أصلاً الى مفهوم الاحتلال غير المباشر.
غير أن أكثر الفقرات خطورة في ذلك المشروع ما اتصل منها بالرؤية الأميركية لمستقبل العراق في الحاضنة الطائفية، انطلاقاً من فكرة المحاصصة بين المكونات العراقية. وهو ما تم التعبير عنه من خلال مجلس الحكم الذي تم تأسيسه على يد الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. كان ذلك المجلس تجسيداً لصورة النظام الطائفي والعرقي الذي خططت الولايات المتحدة لأن يكون مهيمناً على مستقبل العراق.
قبل مجلس الحكم، كان هناك تمهيد أميركي لصوغ موقع للمرجع الشيعي آية الله علي السيستاني في الحياة السياسية وهو موقع سيكون في ما بعد بمثابة حجر أساس لمنطق تداول السلطة بين الفرقاء الذين كان لزاماً عليهم أن يحظوا بمباركة المرجعية الدينية التي لعبت دوراً مهماً في تطبيع الاحتلال وتحريم مقاومته والدعوة إلى تكريس المشروع الأميركي على مستوى الموافقة على الدستور الجديد والدعوة الملزمة لاتباعها إلى المشاركة في الانتخابات في ظل الاحتلال.
كانت مرجعية النجف بالنسبة الى الأميركيين أهم من الأحزاب التي جلبوها معهم من لندن لكي تحكم في بغداد. من خلالها وبمساعدتها نجحوا في تحييد الشارع الشيعي وحصر المقاومة في المحافظات ذات الغالبية السنية تمهيداً للحرب الأهلية التي اشتعلت ما بين عامي 2006 و2007. وكان لتلك الحرب دور كبير في تثبيت الاحتلال من جهة تأثيرها السلبي في القوى المقاومة. كما أنها كرست وبشكل قاطع أسس النظام الطائفي الذي خطط الأميركيون لأن يكون اطاراً سياسياً لمستقبل الدولة العراقية.
يومها اتسع دور مرجعية النجف فصار عليها أن تمارس دوراً سياسياً اضافة إلى دورها الديني رغم أن الأحزاب التي يوالي الجزء الأكبر منها إيران على المستوى السياسي لم تكن تنظر إلى ذلك الدور إلا بطريقة مخادعة، ذلك لأنها هي الأخرى استفادت من تأثير المرجعية على العامة في تمرير مخططها في الاستيلاء على مفاصل الدولة ومن ثم التصرف بحرية بثروات العراق وهو ما مهد لإنشاء ماكينة فساد غير مسبوقة في التاريخ.
لم يحدث أي صدام بين الأحزاب والمرجعية في الصلاحيات والامتيازات إلا على مستوى الإشارات الغامضة التي لم تجد طريقاً لها على مستوى التنفيذ الواقعي كما هو حال شعار “المجرب لا يجرب” الذي نُسب إلى السيستاني شخصياً قبل سنوات وكان مثار اهتمام القاعدة الشعبية في حين استمر الحال على ما هو عليه على مستوى التشكيلة الحكومية التي كررت وجوهها تبعا لتوزبع الغنائم بين الأحزاب.
ما ربحته المرجعية أنها وسعت نفوذها في المجالين السياسي والاقتصادي معتمدة في ذلك على هيمنتها على المستويين الديني والاجتماعي من غير أن تتخطى حدود المناطق التي سُمح لها بالعمل فيها، وهي مناطق تبدو هامشية غير أنها كانت شديدة التأثير في عمل الدولة، بحيث أصبح المعممون وسطاء أساسيين بين المواطن ومؤسسات الدولة في المعاملات التي لم يعد في الإمكان انجازها إلا بعد تخطي حاجز الفساد.
لذلك شهد العراق انتشاراً واسعاً لظاهرة “العمائم” التي صارت وسيلة للحصول على الكثير من الامتيازات بدءا من الرواتب الشهرية وانتهاء بالحصول على مساكن مجانية مريحة في مجمعات خاصة بالمعممين قامت شركات اجنبية بتصميمها وانشائها مرورا بالرشى التي يحصل عليها المعمم أثناء تمرير المعاملات.
في موازاة ذلك عملت الميليشيات على نسف كل مظاهر الحياة المدنية حيث تم التضييق على الحريات العامة واضفاء طابع ديني على مشهد المدينة العراقية من خلال صور الزعماء الدينيين الراحلين والحاليين بغض النظر عن جنسياتهم. كما تم التركيز على المناسبات الدينية التي كانت طقوس الاحتفال بها تُقام بطريقة كئيبة تتطابق مع دعوة الامام الخميني إلى إدامة المسيرات الجنائزية. وكما هو متوقع فقد اتجهت الميليشيات إلى فرض “الحجاب” على النساء باعتباره زيا إسلاميا وهو ما صار جزءا من الحياة اليومية في الجامعات وفي الأسواق وغيرها من الاماكن العامة. وفي ظل ضعف الدولة واستشراء الفساد في مؤسساتها وتداخل ما هو رسمي بما هو ميليشيوي لم يكن غريبا أن تخصص الميليشيات فرقا لمراقبة الاخلاق العامة تعمل على أساس معادلة الحلال والحرام. الامر الذي يعني تعليقا للقانون المدني.
وإذا ما كانت هناك مسافة بين ما يُسمى بالميليشيات الولائية التي غالباً ما تولى أفرادها مهمة القيام بتطبيق الشريعة والمرجعية التي نُسبت إليها ميليشيات صارت تجمعها يُسمى بـ”حشد المرجعية” فإن أحدا من مراجع النجف وبالأخص كبيرهم علي السيستاني لم يكشف عن موقف مناوئ للنزعة الاصولية المتشددة التي تخفي تحت أقنعتها وجوهاً طائفية لا تزال تشكل بالنسبة الى المرجعية رصيداً شعبياً يدعم استمرار نفوذها السياسي الذي يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في تحديد شكل الدولة ومضمون عملها.