الشرق اليوم- تشوب العلاقة بين روسيا وتركيا 3 خلافات “مستترة”، بمعنى أن تداعياتها لم تخرج إلى العلن وبشكل رسمي، بل بقيت خلال الأسابيع الماضية ضمن خانة الأخذ والرد غير المباشر، وهو ما أظهره الجو العام الذي ألقى بظلاله السلبية بصورة مفاجئة، وبسبب تحولات طرأت.
ومن شأن هذه الخلافات بحسب مراقبين أن تعقّد “معادلة التوازن الصعبة” التي تسير بها موسكو وأنقرة منذ سنوات، حيث يحاول كل طرف أن يسير بهدوء بموازاة الطرف الآخر من أجل تحقيق المصالح المرحلية. وفي المقابل قد لا تفض هذه الخلافات في نهاية المطاف بالوصول إلى درجة عالية من التوتر والتصعيد، بناء على عدة اعتبارات.
وتتداخل المصالح الروسية- التركية في عدة ملفات إقليمية ودولية، من بينها الملفين السوري والليبي، بالإضافة إلى ملفات تصدرت الواجهة مؤخرا وتركّزت الأنظار عليها، أولا في أثناء الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، وصولا إلى التطورات المتعلقة بملف أوكرانيا وبولندا التي أعلنت عزمها منذ أيام شراء طائرات مسيّرة بدون طيار من أنقرة.
ويسير الطرفان أيضا في صفقة لشراء منظومة الصواريخ الروسية “s400″، والتي كانت وما زالت حجر عثرة في طريق العلاقات بين تركيا وحليفتها في “الناتو” الولايات المتحدة الأمريكية.
وهناك تقاطع اقتصادي كبير أيضا، يتعلق بجزء كبير منه باتفاق مشروع خط الغاز الطبيعي “السيل التركي”، لنقل الغاز الروسي إلى أوروبيا عبر تركيا، وهو الذي يركّز عليه الساسة الأتراك والروس بشكل كبير، ويتداول ذكره كثيرا الرئيسان التركي رجب طيب إردوغان ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين.
“ضغوط خفية”
فيما يخص الخلافات بين البلدين فكان أولها في مطلع أبريل الماضي، بعد التوتر العسكري الذي نشب بين روسيا وأوكرانيا، وما تبع ذلك من زيارة أجراها الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي إلى العاصمة التركية أنقرة، من أجل توقيع اتفاقيات، من بينها عسكرية، وتخص الحصول على توريدات من الطائرات المسيرة التركية.
الزيارة أثارت غضب موسكو آنذاك، وتمت ترجمته بتصريحات لنائب رئيس الوزراء الروسي، يوري يوريسوف بقوله إن روسيا ستدقق في احتمال التعاون العسكري والتقني في تركيا، إذا باعت أنقرة طائرات بدون طيار إلى أوكرانيا.
وفي مقابل ذلك صرح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف تعليقا على تقارير أن أنقرة قد تبيع طائرات بدون طيار لكييف، بأن موسكو حثت الدول المسؤولة، بما في ذلك تركيا، على “تحليل الوضع وتصريحات نظام كييف العدائية التي لا تنتهي” وحذرتها من تأجيج هذه التطلعات العسكرية.
وعلى الرغم من رسائل الطمأنة التي بعثت بها أنقرة إلى موسكو بشأن صفقة الطائرات المسيرة، إلا أن ذلك لم يكن كفيلا بزوال المخاوف الروسية والتحذيرات أيضا، الأمر الذي دفع الأخيرة لخطوة اعتبرت بمثابة الخلاف الثاني.
“ضغط السياحة”
بعد ذلك وفي 12 من أبريل- أي بعد زيارة الرئيس الأوكراني إلى أنقرة- أعلنت روسيا تعليق جميع الرحلات الجوية الأسبوعية إلى تركيا باستثناء رحلتين، بحجة العدد المتزايد لحالات “كورونا” في تركيا.
وحينها أوضحت رئيسة الصحة العامة الروسية، آنا بوبوفا القرار بالقول إن 80 في المئة من حالات كورونا بين الروس العائدين من الخارج جاءت من تركيا.
تلك الخطوة وعلى الرغم من تأطيرها من جانب روسيا وتركيا في خانة “السلامة الصحية”، إلا أنها تعدت ذلك ووصفت بأنها إجراء سياسي من قبل موسكو، للتعبير عن غضبها من أي تعاون عسكري كبير بين أنقرة وكييف.
وفي عام 2019 كانت أوكرانيا قد اشترت اختبرت طائرات تركية بدون طيار من طراز Bayraktar TB2، وتخطط لتزويدها بذخائر صغيرة ذكية من طراز MAM-L تنتجها شركة Roketsan التركية.
ويرى الباحث في الشأن التركي، محمود علوش أن تركيا تسعى لتعزيز حضورها في مناطق تعتبرها روسيا “حديقة خلفية” لها كالقوقاز وآسيا الوسطى وشرق أوروبا، وهذا يُثير حفيظة موسكو التي تُراقب بحذر هذا التوسع التركي.
ويقول: “الأتراك حريصون على عدم تقديم أنفسهم كلاعب جديد مُهدّد للمصالح الروسية في هذه المناطق، بل كطرف يُمكن أن يلعب دور الوسيط بين روسيا وخصومها كما فعلوه في التوتر الأخير بين موسكو وكييف”.
ومنذ أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في سوريا، أطلق البلدان مسارا جديدا في العلاقات ارتكز على مقاربة التعاون التنافسي بدلا من التصادم.
ويعتبر علوش أن المقاربة المذكورة كانت “فعالة للغاية”، ومكّنت الطرفين من تجنب الصدام في أكثر من قضية وتحقيق الحد الأقصى من المنافع، لكنّها تبقى غير مستقرّة بالمطلق وعرضة لبعض الاهتزازات، خصوصا عندما تتضارب المصالح وتكون فرص التعاون محدودة.
ويشير الباحث التركي: “لذلك نجد أن مسار التعاون يتأثّر صعودا أو هبوطا بحسب تداخل المصالح”.
“خلاف ثالث تفتحه بولندا”
في غضون ذلك لم تتوقف الخلافات “المستترة” بين البلدين على الملفين السابقين، بل انسحبت في الأيام الماضية إلى ملف ثالث فتحته بولندا، بإعلانها شراء طائرات مسيرة تركية نوع “بيرقدار”.
هو تطور يراه مراقبون أنه يحمل أبعادا استراتيجية ومن شأنه أن يثير غضب موسكو مجددا، كون بولندا تقع بالجوار الروسي لكنها ضمن “المعسكر الغربي”، وتشوب علاقتها معها اضطرابات وتوتر مستمر.
الغضب الروسي بدت ارتداداته واضحة على المشهد العام، منذ أيام بعد إحياء تركيا الذكرة السوية لتهجير تتار القرم والشركس من قبل روسيا.
وقالت الخارجية التركية تعليقا على ذلك: “إن نحو 250 ألف شخص من تتار القرم سلخوا عن وطنهم الأم في ليلة 18 من مايو 1944″، مشيرةً: “لا زالوا يواجهون صعوبات ناجمة عن الضم الروسي غير القانوني لشبه جزيرة القرم”.
وعلى أثر ذلك هددت روسيا بالرد على تركيا في حال مواصلة خطابها “المغرض” اتجاهها، وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا: “تصريحات تركيا بشأن تتار القرم وشبه جزيرة القرم مثيرة للقلق، إذا لم تتغير هذه التصريحات فسنضطر إلى إثارة المشاكل الدينية والعرقية في تركيا”.
“خلافات ضيقة بسبب الناتو”
ويستبعد المحلل السياسي الروسي، ديمتري بريجع أن تكون الخلافات بين روسيا وتركيا واسعة، وقد تذهب إلى مناح متصاعدة.
ويتوقع بريجع في تصريحات لموقع “الحرة” أن الخلافات بين البلدين “سوف تبقى في مسار ضيق في الظروف الحالية، لأن عامل الناتو يستمر في التأثير على العلاقات الروسية التركية”.
ومع ذلك، يبدو أن أهمية الخلافات المذكورة اليوم أقل نوعا ما “نظرا لأزمة المعاني في التحالف العسكري السياسي الغربي، فضلا عن ظهور أولويات تركيا الخاصة التي تختلف عن أولويات الناتو وأجندة في مجال ضمان الأمن القومي التركي”.
ويضيف المحلل الروسي أن أزمة عام 2015 “أظهرت أن وجود مشاريع استراتيجية مشتركة وعلاقات إنسانية وثيقة (السياحة من روسيا إلى تركيا والعائلات المختلطة الروسية التركية) في حد ذاته لا يضمن عدم ظهور أزمات في العلاقات الروسية التركية”.
من جانبه يشير الباحث التركي، محمود علوش إلى “قناعة مشتركة” بين أنقرة وموسكو “بضرورة الحفاظ على هذه المقاربة للعلاقات ومنع تأثير أي خلافات في أي قضية على مسار التعاون في القضايا الأخرى، وهذا الأمر يُساعد في الحد من أي أضرار على العلاقات ككل”.
ويرى الباحث أن “تجارب التعاون في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز أثبتت للطرفين أهمية الاستمرار في هذه المقاربة وحمايتها. لا موسكو ولا أنقرة تنظران إلى هذه الشراكة كتحالف استراتيجي، لكنّهما لا ترغبان أيضا في التخلي عنها”.
“فجوة كبيرة”
أمام ما سبق لم تتضح الصورة الكاملة التي ستكون عليها العلاقة بين تركيا وروسيا، وهما البلدان اللذان يصفان نفسهما بـ”الشريكان” وليس “الحليفان”.
وإلى النقطة التي تتعلق بحظر سفر السياح الروس إلى تركيا فيرى المحلل الروسي، ديميتري بريجع أن “روسيا تستفيد من خسارة تركيا السياح الروس، وبذلك تحسن السياحة الداخلية. لكن الحكومة الروسية تفهم جيدا بأن جودة السياحة الداخلية ليست بجودة السياحة في تركيا”.
أما بخصوص العلاقات الروسية التركية فاعتبرها المحلل الروسي “جيدة لكنها تعاني من بعض الأزمات، لأن المصالح التركية لا تتقاطع مع مصالح روسيا في الكثير من المواضيع ولاسيما بما يخص موضوع شبه جزيرة القرم”.
وتعتبر تركيا شبه جزيرة القرم جزء من أوكرانيا وليس من روسيا، وتعتبر السيطرة الروسية كاحتلال، وبذلك يمكن مستقبلا أن تحدث نزاعات بخصوص ملف القرم وملفات أخرى، لكنها “لن تصنع حروب كبيرة”.
وبوجهة نظر بريجع: “يجب اعتبار الفجوة الكبيرة في العلاقات الثنائية هي الافتقار إلى إضفاء الطابع المؤسسي على التعاون العسكري والسياسي والتجاري والاقتصادي بين روسيا وتركيا، على الرغم من أن كل من عملية أستانا والاتحاد الاقتصادي الأوراسي يتمتعان بإمكانية التنمية”.
ويضيف: “على الرغم من أنهم غير قادرين على تحقيق التوازن بين عوامل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، إلا أن ظهور أساس مؤسسي في العلاقات الروسية التركية لا يمكن المبالغة فيه”.
المصدر: الحرة