بقلم: بابكر فيصل – الحرة
الشرق اليوم- شهدت العاصمة الفرنسية، باريس، في 17 مايو الجاري انعقاد مؤتمر “دعم الانتقال الديمقراطي في السودان” برعاية الرئيس، إيمانويل ماكرون، ومشاركة عدد من رؤساء الدول والحكومات والمنظمات الإقليمية والدولية.
وقد شاركت الحكومة السودانية الانتقالية في المؤتمر بوفد عالي المستوى قاده رئيسا مجلسي السيادة والوزراء إلى جانب ممثلي القطاع الخاص من رجال وسيدات الأعمال فضلا عن رموز الثورة من الشباب.
لقياس مدى نجاح المؤتمر أو فشله بشكل موضوعي بعيدا عن التهويل أو التبخيس، لابد أن ننظر في الأجندة التي سعت إلى تحقيقها الجهات الداعية لقيامه، وما كانت ترجوه الحكومة السودانية من نتائج تسعى للتوصل إليها من أجل المساهمة في تحقيق أهداف الإنتقال الديمقراطي.
سعت الحكومة الإنتقالية والجهات المنظمة للمؤتمر لتحقيق ثلاثة أهداف تتمثل في إعفاء ديون السودان الخارجية (حوالي 58.8 مليار دولار) وجذب الاستثمار بالإضافة إلى دمج البلاد في المجتمع الدولي بعد عزلة استمرت لثلاثة عقود.
مناقشة ما أنجزه المؤتمر بخصوص إعفاء الديون، تجب الإشارة إلى أن هذا الأمر يرتبط إرتباطا وثيقا ببرنامج المراقبة التابع لصندوق النقد الدولي، وهو البرنامج الذي أقرته الحكومة السودانية سلفا وشكل أساس التعاون بين الطرفين، وتنبع أهمية هذه الإشارة من أن جل الإنتقادات التي وجهت للمؤتمر كانت تعبر عن رؤية مدرسة إقتصادية تشكك في جدوى التعاون مع الصندوق من الأساس وليس خطوة إعفاء الدين في حد ذاتها.
برنامج المراقبة يمثل حجر الزاوية لمبادرة صندوق النقد والبنك الدوليين المعنية بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون، وهى المبادرة التي تسعى لمساعدة تلك البلدان لتجنب أعباء المديونيات التي لا يمكنها التعامل معها والسماح لها بالحصول على تمويل دولي بتكلفة أقل.
في هذا الإطار، استطاعت الحكومة من خلال المؤتمر، انتزاع تعهدات من دول عديدة بإعفاء ديونها على السودان، كما أعلنت فرنسا منح السودان قرضا تجسيريا بقيمة 1.5 مليار دولار لتسوية متأخرات مستحقة لصندوق النقد، وهي خطوة مهمة للغاية لجعل البلد مستحقا لمبادرة الدول الفقيرة، وذلك بعد أن قام السودان مؤخرا بتسوية متأخرات مستحقة للبنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية عبر قروض تجسيرية.
في مؤتمر صحفي عقده بعد عودته لبلاده من باريس، توقع رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، أن يستفيد السودان من إعفاء ما يقارب 45 مليار دولار من ديونه وهو إجمالي التعهدات التي تم تقديمها خلال المؤتمر.
ومن المعلوم أنه لا يمكن إعلان تعهدات إعفاء عبء الديون بصورة رسمية إلا بعد الوصول لما يسمى بـ “نقطة قرار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون”، والتي تتضمن عددا من الأمور أهمها إحراز السودان سجلا إيجابيا في مجال الإصلاح والسياسات السليمة في إطار برنامج المراقبة مع صندوق النقد، ويترقب السودان صدور تقرير الصندوق في هذا الخصوص، أواخر شهر يونيو القادم.
بعد الإعلان الرسمي عن الإعفاء وهو الأمر المتوقع نهاية الشهر القادم، يدخل السودان في المرحلة الأخيرة المعروفة بـ”نقطة الإنجاز” والتي تتضمن عدة أمور أهمها إستمرار البلد في تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها في المرحلة السابقة بصورة مرضية، ما يجعل السودان مستحقا للتخفيف الكامل لعبء الدين المعلن عنه.
إذا، وفقا للحقائق والتوقعات التي قمنا باستعراضها أعلاه، فإن حقيقة نجاح المؤتمر أو فشله في تحقيق أحد أهدافه الرئيسية المتمثلة في إعفاء الديون ستنجلي عبر الإعلان الرسمي في مرحلة نقطة القرار الشهر القادم.
أما فيما يلي الهدف الثاني المتمثل في جذب الاستثمارات، فقد تعهدت دول وشركات وهيئات تمويل شاركت في المؤتمر بالاستثمار في مختلف قطاعات الاقتصاد السوداني حيث قامت الحكومة السودانية بالتعاون مع القطاع الخاص بعرض أكثر من 18 مشروع حيوي في قطاعات الزراعة والطاقة والنقل والبنية التحتية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة.
يمثل جذب الإستثمارات الخارجية تحديا حقيقيا للحكومة السودانية، فعلى الرغم من أنها أقرت مؤخرا قانون الاستثمار لسنة 2021، إلا أن هذا الملف يرتبط بإجراء إصلاحات عميقة في العديد من القطاعات مثل البنوك والأراضي، فضلا عن محاربة الفساد المؤسسي وتقنين العلاقة بين مستويات الحكم المختلفة (المركزية والولائية) وتوفير البيئة المشجعة والمحفزة على الاستثمار ويأتي في مقدمتها الاستقرار السياسي والأمني.
يتطلب هذا الهدف من الحكومة الإسراع في إكمال ملف السلام مع الحركات المتمردة في دارفور وجبال النوبة، بالإضافة إلى ضرورة تكوين هياكل السلطة الانتقالية وفي مقدمتها المجلس التشريعي وتعيين ولاة الولايات بشكل دائم، وهو الأمر الذي من شأنه المساعدة في توفير الاستقرار السياسي والأمني المطلوب لتعزيز مناخ الإستثمار.
ومن الجلي أن انعقاد مؤتمر باريس بمشاركة واسعة من الدول والمؤسسات المانحة والشركات يجسد في حد ذاته تحقيق الهدف الثالث للمؤتمر والمتعلق بإعادة دمج السودان في المجتمع الدولي، فقد كان من المستحيل عقد مثل هذا الملتقى قبل نجاح الثورة وإسقاط الجنرال المخلوع عمر البشير الذي ترأس نظاما منبوذا تسبب في عزل البلد عن مجتمع الدول لمدة 30 عاما.
توضح النظرة الموضوعية لمخرجات مؤتمر باريس أن الفترة المقبلة ستشهد تحقيق العديد من الأهداف التي من شأنها إحداث تغيير إيجابي على الإقتصاد السوداني في المرحلة المقبلة، ولا يعني ذلك بالضرورة وقوع نقلة كبرى بشكل فوري، ولكنه يؤكد أن تحولا ملحوظا سيطرأ على الإقتصاد في المدى المتوسط والبعيد، وهو أمر يتطلب من الحكومة بذل جهود كبيرة تواكب تلك التحولات من أجل تحقيق الفائدة القصوى الممكنة.