بقلم: حسام ميرو – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – معظم الدراسات وأوراق السياسات التي تناولت مسألة انهيار النظام الإقليمي القديم في الشرق الأوسط، تتفق في ما بينها على أن السبب الجوهري في ذلك الانهيار يتمثل برؤية الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، للشرق الأوسط، فأثناء ولايته الأولى بين عامي 2008 و2012، مهّد أوباما لعهد جديد في المنطقة، على حساب التحالفات الاستراتيجية التاريخية للولايات المتحدة، وقد اعتبر أوباما أن الوصول إلى إبرام الاتفاق النووي مع إيران، كفيل بأن يحدث ديناميات جديدة تقود إلى خفض التصعيد في المنطقة بما يسمح للولايات المتحدة أن تضمن مصالحها في الشرق الأوسط، بأقل تكلفة من الانخراط الفعلي، وهو ما يتيح لها التفرّغ شبه التام للملف الأكثر تحدّياً لها، أي ملف صعود الصين.
نجح أوباما في ولايته الثانية (2012-2016) في أن يصل إلى مبتغاه في عقد الاتفاق النووي مع إيران، لكن من الناحية العملية، توقفت مفاعيل هذا الاتفاق مع قدوم الرئيس ترامب إلى سدّة الحكم، حيث تبنى سياسات أكثر راديكالية تجاه طهران، مع تأكيده أهمية العلاقات التاريخية مع دول الخليج، واستعادة العلاقات الدافئة مع إسرائيل، التي كانت قد تعرّضت للفتور في عهد سلفه أوباما، لكن الرئيس ترامب لم يبد معنياً بإعادة ترتيب النظام الإقليمي للشرق الأوسط، بقدر ما بدا أنه ينفذ سياسة دفع كل الأطراف إلى الانخراط في مواجهات بينية، من دون أن تطرح إدارته أية تسويات في الملفات الرئيسية.
اختار الرئيس جو بايدن، مبعوثاً لإيران كان قد لعب دوراً مهمّاً في التفاوض بين إدارة أوباما وإيران حول ملفها النووي، وهو روبرت مالي، الأمر الذي فسره محللون كثر على أنه عودة إلى سياسات أوباما في الشرق الأوسط، فعلى الرغم من تصنيف بايدن لطهران أنها تمثل، إلى جانب الصين وروسيا، أحد أهم التحدّيات في سياساته، فإن معالجة هذا التحدي من الناحية العملية تمثلت بالعودة إلى طاولة المفاوضات، وإعطاء إشارات قوية من جانب واشنطن بأنها ماضية بقوة إلى تذليل العقبات أمام إبرام اتفاق جديد، حتى لو أتى هذا الاتفاق على التضاد من مصالح أمريكية مع دول أخرى في المنطقة.
تصريحات روبرت مالي الداعمة لرفع العقوبات عن إيران و«ضمان أن تتمتع بالمزايا التي كان من المفترض أن تحصل عليها بموجب الاتفاق»، أثارت حفيظة عدد من حلفاء واشنطن، بما فيهم الأوروبيين، فقد جاءت هذه التصريحات قبل استضافة فيينا لمحادثات بين ممثلين للرئيس بايدن وممثلين عن الحكومة الإيرانية، حيث اعتبرت تصريحات مالي مناقضة لمبادئ التفاوض، وتصب في مصلحة تثقيل أوراق طهران في التفاوض، لكن من الناحية العملية، فإن إدارة بايدن كانت قد اتخذت بالفعل عدداً من الخطوات التحفيزية تجاه طهران، من مثل إسقاط الاعتراضات الأمريكية على قرض من صندوق النقد الدولي لإيران بقيمة خمسة مليارات دولار، والإفراج عن أموال النفط الإيرانية المجمدة في عدد من الدول، وهو ما يعني أن بعض مخرجات التفاوض حدثت قبل انتهائه.
من الناحية النظرية، قد يبدو أنه لا غرابة في أن يستكمل بايدن رؤية أوباما للشرق الأوسط، فهما لا ينتميان إلى الحزب نفسه فقط، بل يمثلان خطاً واحداً في الممارسة السياسية يقوم على أساس الاشتباك الإيجابي مع الخصوم، وتحييد الملفات الراديكالية لدفع الخصوم للانخراط في تصوّر أمريكي للمصالح من دون أن تكون هناك مواجهات كبيرة، لكن من الناحية العملية، فإن الظروف والتحالفات التي كانت قائمة في عهد أوباما، طرأت عليها تغييرات كبيرة.
إذا كان منطق السياسات التي اتبعها الرئيس بايدن خلال الأشهر القليلة الماضية من بداية رئاسته، يوحي بأنه يدفع جميع الأطراف للتفاوض والابتعاد عن الحلول الصفرية، وصولاً إلى بناء نظام إقليمي جديد يضمن مصالح واشنطن بتكلفة أقل، وهو ما كان يطمح له الرئيس أوباما، فإن هذا المنطق يحمل في طياته تناقضاً بنيوياً مع دور واشنطن المعروف تاريخياً، والذي يتمثل في إيجاد الشكل العام للأنظمة الإقليمية، ودفع الآخرين للتكيّف معها، لكن مخاطر مثل هذا المنطق تتمثل في دفع اللاعبين في المنطقة إلى تحويل الفوضى القائمة إلى نظام إقليمي يمتلك ديناميات وأسباب ديمومته من داخله، بعيداً عن تأثيرات ومصالح واشنطن.