بقلم: محمد أبو الفضل – العرب اللندنية
الشرق اليوم- مع عودة الدفء في العلاقات بين مصر والولايات المتحدة راجت استنتاجات بأن القاهرة انخرطت لوقف الحرب في قطاع غزة لمقايضة واشنطن على تدخلها لحل أزمة سد النهضة الذي يمثل أهمية قصوى للقاهرة، وهي طريقة غير دقيقة في التفكير.
فلا الأولى اخترعت أو أسهمت أو حرضت على الحرب لتثبت حضورها الإقليمي وأهميتها في المنطقة، ولا الثانية تقبل ضغوطا من هذا النوع لتتدخل في أزمة ما، فالمسألة لها حسابات خاصة بكل دولة، وتتعلق بتقديرات مختلفة تفرضها مكونات المصالح الإستراتيجية البعيدة.
تدّخل مصر بالوساطة الماراثونية بين إسرائيل وحماس لوقف الحرب فرضته معطيات لها علاقة وثيقة بأمنها القومي، ولم يتم التدخل لرفع الحرج عن الولايات المتحدة وتبييض وجهها أو إنقاذ إسرائيل أو تخفيف الضغوط عن حركة حماس.
كما أن واشنطن لا تنتظر حادثة هنا أو تطورا هناك لترمي بثقلها خلفه ولتشرع في حل أزمة السد الإثيوبي، فهو جزء من اهتمامها العام بحكم تأثيراته المتوقعة على الأمن والاستقرار الإقليمي، وتديره بالطريقة التي تتواءم مع مصالحها الحيوية.
عينت واشنطن مبعوثا خاصا للقرن الأفريقي، هو جيفري فيلتمان، وقام بجولة استكشافية الشهر الماضي لكل من مصر والسودان وإثيوبيا وإريتريا، وعبر الرجل عن ضرورة استئناف المفاوضات في أسرع وقت ممكن قبل أن تبدأ حرب غزة وتظهر في الأفق ملامحها، بمعنى أن واشنطن بدأت فعليا تقترب من توترات القرن الأفريقي بعيدا عن غزة وتوابعها، غير أن رؤيتها للتدخل في سد النهضة أمر يمكن الاختلاف حوله، فلكل من القاهرة وأديس أبابا مكانة مهمة في الروزنامة الأميركية، ما يجعل عملية الضغوط المتبادلة عبثية.
من يتابع الموقف الأميركي الراهن من سد النهضة يجده يأتي في مرتبة تالية للأزمة الإنسانية في إقليم تيغراي، حيث صبت واشنطن جام غضبها على تحركات أديس أبابا وحليفتها أسمرة وما قامتا به من انتهاكات في الإقليم، وأدانتهما تقارير عديدة، في حين لم تذكر كلمة لوم واحدة خاصة بتعنت أو غطرسة إثيوبيا في إدارة ملف سد النهضة، وتتعامل معه باعتباره مشروعا تنمويا واعدا لها.
تبدو فكرة المساومة مع الدول الكبرى غير مجدية، لأن التصورات والتصرفات لا يتم صناعتها من منطلق مواقف متسرعة أو إرضاء لخواطر معينة، فإدارة الرئيس جو بايدن تأتي تحركاتها مع القضايا المتباينة من منطلق مؤسسات عميقة وهيراركية (هرمية) متينة لحد البيروقراطية، وقد حرص الرجل على ترسيخها منذ اليوم الأول لبداية حكمه، لذلك فالمسألة بعيدة عن الانفعالات أو الردود العفوية.
انتهى عصر الرئيس دونالد ترامب بكل ما حمله من محورية ذاتية، وفي أوج علاقته القوية بنظام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لم يستطع فرض إرادته على إثيوبيا أو إملاء شروط محددة عليها، فقد رعت واشنطن مفاوضات بين القاهرة وأديس أبابا والخرطوم لأكثر من ثلاثة أشهر، وجرى إعداد وثيقة لحل الأزمة بصورة متكاملة وجيدة، وعندما رفضتها إثيوبيا ولم يوقع عليها السودان في حينه انهار التدخل الأميركي برمته، ولم يُصر ترامب على الانتصار لحليفه السيسي.
كان بإمكان إدارة ترامب استخدام عناصر القوة الظاهرة والخفية وفرض الوثيقة الأميركية على الجميع، غير أنها لم تلجأ إلى ذلك، لأن هذا النوع من القضايا المعقدة بحاجة لديناميكية رشيقة توفر لها بيئة مناسبة للتنفيذ، ولأن فكرة التدخل والدور لهما حدود مرتبطة برؤى إستراتيجية لا يصلح معها الحب والكره والخواطر والمقايضات.
تعلم القاهرة أن ملف سد النهضة يمثل أهمية حيوية لإثيوبيا، بدليل أن ثلاث إدارات أميركية مرت عليه (باراك أوباما وترامب وبايدن) وتكاد تكون مقاربات جميع الإدارات متشابهة في المحصلة النهائية، وهي صفر، على الرغم من أن العلاقات بين القاهرة وواشطن تفاوتت صعودا وهبوطا، وسخونة وبرودة، على مدار العقد الماضي الذي بدأت فيه أديس أبابا بناء مشروعها العملاق.
تقود هذه النتيجة إلى أن مصر لديها دراية كافية بأن المساومة هنا غير عملية وغير منتجة بالمرة، هذا إذا افترضنا أن الإدارة الأميركية الحالية قابلة للابتزاز، ولن يضر الولايات المتحدة كثيرا إذا استمرت الحرب على غزة أياما أو أسابيع أخرى، لأنها على مدار الأحد عشر يوما للحرب لم تتغير ثوابتها حيال دعم إسرائيل المتواصل في مجلس الأمن، أو إدانتها السياسية الواضحة لتصرفات حماس في جميع المحطات.
من تحدثوا عن مقايضة بين قطاع غزة وسد النهضة غابت عنهم الكثير من تفاصيل الصراع في الأول الذي خشيت القاهرة أن يمتد أكثر من اللازم بما يلحق ضررا بالغا بها ويفرض عليها خيارات قد تكون غير مستعدة لها في الوقت الحالي، وتجاهلوا التشابكات الطاغية في الأزمة الثانية التي تجعل من واشنطن متريثة جدا.
رمت مصر بثقلها لوقف الحرب وإيجاد واقع جديد يعيد إليها مكانتها في القضية الفلسطينية، ويجعل من المفاوضات طريقا عمليا للحل، وتؤكد أنها حاضرة بقوة في المنطقة، وأن أي مشروعات إقليمية لن تكون مجدية في ظل تغييبها. ونجحت القاهرة في أن تحصل على ثقة مبدئية من واشنطن في توقيت بالغ الحساسية، كانت فيه مؤشرات العلاقات تسير نحو طريق شبه مسدود.
يمثل هذا التطور مكسبا مهما، بصرف النظر عن تدخل الإدارة الأميركية في أزمة سد النهضة من عدمه، فعندما تتيقن الأخيرة من أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه القاهرة ويخدم مصالحها، قد يتم التفكير هنا في تخفيف الضغوط الواقعة عليها في بعض الأزمات الإقليمية، والتي ربما يكون من بينها سد النهضة، ما يحقق الفائدة لكل من مصر وإثيوبيا، فالدولتان مهمتان في التوازنات الإقليمية التي تقيمها الولايات المتحدة ولن تستطيع التضحية بواحدة على حساب الأخرى.
لذلك فأي تدخل جاد يمكن أن تقوم به واشنطن لن يحقق أهداف القاهرة كاملة، فقد يكون بمثابة نصف انتصار ونصف هزيمة، وهي نتيجة تكفي لنسف مبدأ المقايضة، وتنحيتها من إدارة العلاقات بين الطرفين.
فلا تزال هناك أشواط متعددة للمباريات السياسية، ولا أحد يعرف نتيجتها بالضبط بالنسبة لغزة أو سد النهضة، فوقف الحرب في الأولى لا يعني نهاية المطاف وعدم تكرارها، والبرودة النسبية في موقف الولايات المتحدة من الثانية لا تشي بعدم الانهماك فيها تماما. في الحالتين تمر العلاقات بين البلدين بمرحلة جس نبض بحاجة لثباتها لقياس طبيعة الدور الذي يمكن أن يقوم به كل طرف ويصب في مصلحة الثاني.