بقلم: حسن إسميك – المصري اليوم
الشرق اليوم – الأن .. وبعد أن ثبت اتفاق الهدنة الذي أعلن عنه بين إسرائيل وحماس ليلة الجمعة السابقة، يمكن أن نسأل أنفسنا: كم هو باهظ الثمن الذي تُكلّفه العقلانية في زمن الاضطرابات والحروب، وكم هي مجحفة وظالمة تلك التهم التي توجّه إلى من يحاول مقاربة الأمور بمنطق هادئ عندما يشتد وطيس النزعات، لأن الأغلبية تنسى أن التفكير بعقل بارد لا يعني أبداً أن القلب ليس مشتعلاً بنار الأسى والحزن على المأساة التي يعيشها أهلنا اليوم في فلسطين الحبيبة، كما تنسى أن أكثر مشكلاتنا نحن العرب تأتي من أن أغلب سياساتنا (الرسمية والشعبية) انفعالية وليدة تفكير لحظي، لا تتجاوز كونها ردود أفعال غير محسوبة المآلات والعواقب. لذلك ورغم الهجوم الذي تعرضت وسأتعرض له، لن أتنصل من مسؤولية الوقوف لحظة للتفكير في حقيقة ما يجري اليوم في الأراضي المحتلة، وفي أسبابه ودوافعه، وتأثيراته المستقبلية، على أمل ألا تذهب سدى –كما كل مرة– الدماء الفلسطينية المراقة، وتضيع تضحياتهم الكبيرة في متاهات السياسة ودهاليزها الكثيرة.
شهدت الأوضاع في الأراضي الفلسطينية تصعيداً كبيراً، ومنذ العاشر من شهر أيار/مايو الجاري بدأت القوات الإسرائيلية حملة قصف واسعة على غزة، مستهدفة حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وأعلنت السلطات الصحية الفلسطينية حصيلتها النهائية في القطاع وحده عن عدد من الشهداء بلغ 233 شهيداً، بينهم نحو 65 طفلاً و39 سيدة، إضافة إلى ما يزيد على 1900 جريح بلغ عدد الأطفال منهم أكثر من النصف. ناهيك عن الدمار في الأبنية السكنية والبنى التحتية التي تكاد تصبح معطلة بالكامل في أحد أكثر الأماكن كثافة سكانية على وجه الأرض بعد نزوح أكثر من 75 ألف فلسطيني من منازلهم وتجاوز الإضرار حوالي 100 مليون دولار في قطاعات الصناعة والطاقة والزراعة. في حين تسببت الصواريخ التي أطلقتها «حماس» بمقتل نحو 12 إسرائيلي وإصابة 335 آخرين بجروح. والنتيجة أسوأ قتال منذ عام 2014.
كل المداخل التي يمكن من خلالها مقاربة هذا الحدث تقود إلى نتيجة واحدة دائماً، هي أن إسماعيل هنية (رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»)، وبنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، قد قامرا مقامرة غاية في الخطورة، ودفعا نحو مزيد من التصعيد لاستغلال العنف القائم في تحقيق استقطاب سياسي، يضمن –ربما– بضع سنوات تضاف إلى حياتهما السياسية الميتة سريرياً، أو للتغلب على خصومهما الداخليين، وإن كان ذلك على حساب شعوبهما وحتى أنصارهما.
في رواية «حماس» تطبق السلطة في إسرائيل القوانين بشكل تميزي، وتمارس «عنف دولة» ممنهجاً ومصمماً لترسيخ سيادة اليهود على الفلسطينيين، وتسمح قوتها العسكرية الهائلة، والدعم الأمريكي الكبير لها، بإلحاق ضرر غير متناسب بالفصائل الفلسطينية.. والسؤال هنا لماذا ما تزال «حماس» قائمة إلى اليوم، وقادرة على تهديد إسرائيل؟
لقد استفاد الإسرائيليون، ونتنياهو على وجه الخصوص والتحديد، من سياسات حركة «حماس» وأنشطتها الانفعالية، ما يبرر التساهل الإسرائيلي والدولي تجاه تنظيم تصنفه الولايات المتحدة «إرهابياً»، وسماح نتنياهو لقطر مثلاً بتحويل نحو مليار دولار إلى غزة، منذ عام 2012، ذهب نصفها على الأقل إلى حماس، بما في ذلك جناحها العسكري.
يدين نتنياهو –بطريقة أو بأخرى– لـ «حماس» بوصوله إلى السلطة عندما شكل حكومته الأولى عام 1996. فبعد معاهدة أوسلو لعام 1992، والتي اتفق بموجبها رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات على التحرك نحو دولتين متوازيتين تعيشان في سلام، جرى اغتيال رابين على يد متطرف يهودي يميني. توقع الجميع حينها أن يفوز خليفته، شمعون بيريز، بانتخابات عام 1996 ليمضي قدماً في اتفاق أوسلو. لكن، وبدلاً من ذلك، شنت «حماس» حملة استهداف حاولت من خلالها قتل أكبر عدد من الإسرائيليين، فما كان من الناخبين الإسرائيليين إلا أن توجهوا إلى أحضان اليمين القومي المناهض لاتفاقيات أوسلو، ليفوز نتنياهو الكوماندوز السابق ومرشح اليمين، ويترأس الحكومة، ويبدأ رحلة تخريب عملية السلام. وكثيراً ما تكرر سيناريو «التعاون» هذا كلما لاح في الأفق أي انفراج قد يفضي إلى إحياء العمل على «حل الدولتين».
واليوم، لا تخرج دوافع الانفجار الأخير، ولا التصعيد الذي تبعه، عن المألوف، في التجبر الإسرائيلي أولاً وفي ردود «حماس» غير المحسوبة بالمقابل، ليستفيد هنية ونتنياهو من هذا القتال على أمل تحقيق مكاسب استراتيجية، فلم يكن التصعيد ليأتي في لحظة أكثر مناسَبة للخصمين السياسيين!
بعد أربع جولات انتخابية غير حاسمة في غضون عامين، فشل نتنياهو في تشكيل ائتلاف قابل للبقاء في الكنيست. وقبل اندلاع الأحداث بقليل كانت مجموعة متنوعة من خصوم الزعيم اليميني، تضم حزباً عربياً ووسطيين وحتى بعض القوميين والفصائل اليمينية، تهيئ مشروعاً لتشكيل أول حكومة لا تضم نتنياهو منذ نحو 12 عاماً، ويصير ما يعني أنه سيكون عرضة للمحاكمة بتهم الفساد الخطيرة التي يواجهها، وقد يُسجن أيضاً، لتنتهي حياته السياسية بأسوأ ختام ممكن.
لجأ نتنياهو، كما العادة، إلى حلفائه في اليمين المتطرف، والذين بدورهم أشعلوا الاضطرابات في القدس بعد أن استفزوا لأسابيع الفلسطينيين المسلمين المحتفلين بشهر رمضان المبارك، غير مكترثين بأن الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021 كانت الأقل عنفاً بالنسبة لإسرائيل منذ عدة عقود. لم تتأخر الاضطرابات في التحول إلى عنف كان أول ضحاياه محاولة الإطاحة بنتنياهو. لقد تخلى نفتالي بينيت؛ «صانع الملوك» اليميني، وزعيم المعارضة يائير لابيد، عن محادثات تشكيل ائتلاف يطيح بنتنياهو لصالح استئناف المفاوضات مع حزب الليكود بزعامة نتنياهو، مع المطالبة باستخدام القوة في المدن التي يسكنها إسرائيليون وعرب، وهو أمر مستحيل في حكومة تدعمها الفصائل العربية.
بالمقابل دخلت «حماس» المعركة وسط نزاع فلسطيني داخلي متشابك، فهي على خلاف مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي تسيطر حركة فتح التابعة له على الضفة الغربية، والذي قرر مؤخراً إلغاء الانتخابات الفلسطينية التي طال انتظارها، ما أدى إلى تفاقم الإحباط العام من السلطة الفلسطينية ذات الشعبية المتراجعة.
وإذا كان نتنياهو يكافح لتمديد حكمه لأشهر، فإن هنية في غزة يلعب على المدى الأطول، فهو يحاول كسب تأييد الفلسطينيين الأكبر –والذي تتحصل حماس على القسم الغالب منه وهذا ليس سراً– معتمداً على استنهاض المشاعر الإيجابية حيال «حماس» التي تواجه إسرائيل لتدعم الفلسطينيين في القدس. إذن، لا تريد حماس في الواقع شيئاً من إسرائيل، بل تنتهز اللحظة الراهنة لتحقق مكاسب في السياسة الفلسطينية، وكأن صواريخها الأخيرة التي أشعلت الجنون الإسرائيلي ضد غزة وأهلها ليست إلا هي جهوداً للتغلب على فتح!
حماس هي الأقوى حالياً في منافستها الدائمة مع فتح؛ الحركة السياسية الفلسطينية التي قبلت «حل الدولتين» (المحتضر الآن)، وربما لم يكن هنية بحاجة هذه الحرب كما يحتاجها نتنياهو، لكنه لم يتردد في إشعالها، فحرب «صغيرة» مع إسرائيل بين الحين والآخر ستكون جيدة لتجميل صورة حماس، مع استمراره في تبني نموذج الرفض الدائم للسلام مع إسرائيل، على أمل أن يؤدي تدخل «قوة خارقة» يوماً ما إلى النصر الكامل لحماس، وليست أرواح الفلسطينيين المزهوقة بالنسبة له سوى ثمن بسيط.
يقول حاييم رامون، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إنَّ نتنياهو ومنذ وصوله إلى السلطة عام 2009، وقع «اتفاقاً غير مكتوب مع حماس»، لإحباط السلطة الفلسطينية وزعيمها، وتعميق الخلاف بين حماس في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية لإضعاف الرئيس محمود عباس ووأد أي مفاوضات سلام في مهدها، بحجة أن السلطة الفلسطينية لا تمثل كل الفلسطينيين. واليوم سيستفيد نتنياهو من صواريخ حماس لتفجير أي أمل في تشكيل حكومة لا يترأسها، وجر البلاد إلى انتخابات خامسة، مع ضمان فوز اليمين فوزاً مذهلاً جراء تزايد التطرف الشعبي بعد جولة دموية جديدة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وفي الختام لا بد من القول إنَّ كثيرين قد يتساءلون عن أسباب ما يجري في فلسطين اليوم، والسؤال الأصح هنا هو: من المستفيد مما يحدث؟ إنهم نفس «الحلفاء/الأعداء» القدامى الذين يمارسون هذه اللعبة منذ ربع قرن: حماس ونتنياهو. وقبل التفكير بما سيحمله هذا الاشتعال من تأثيرات مستقبلية، يجب التفكير بكيفية إيقافه، فالفلسطينيون كغيرهم من شعوب الأرض يستحقون الحياة، ولا يحق لأي فصيل أو حركة أن يحولوهم إلى وقود للمعارك السياسية. لقد قدم الفلسطينيون الكثير وسطروا ملاحم وبطولات على امتداد عقود، وآن لهم أن يحصلوا على سلامهم المستحق، وعلى حياة آمنة مستقرة ورغيدة تليق بهم وبتضحياتهم.