بقلم: أسامة رمضاني – النهار العربي
الشرق اليوم – هناك ما يبرر الجدل الذي أثارته حوارات الوفد الاقتصادي التونسي مع مسؤولي صندوق النقد الدولي والبنك العالمي في واشنطن خلال الأيام الأخيرة الماضية. فالوفد التونسي سافر إلى العاصمة الأميركية من دون أن يكون هناك إجماع مسبق على الملفات التي حملها معه.
في غياب هذا الإجماع المسبق، أعرب الاتحاد التونسي للشغل عن توجساته تجاه أي اتفاق قد تتوصل إليه الحكومة التونسية مع صندوق النقد الدولي حول إجراءات اقتصادية تقشفية ستكون لها انعكاسات اجتماعية لا مفر منها على شرائح واسعة من المجتمع.
في هذا الإطار، لم يكن مفاجئاً أن تعبر المنظمة العمالية عن تمسكها بثوابت عريقة لديها من بينها عدم المس بالأجور أو مواطن الشغل. ولكنها تعرف أن هذه الثوابت سوف تكتسي جانباً كبيراً من النسبية من خلال المستجدات القادمة حتى إن حاول اتحاد الشغل درء انعكاساتها على العملة والموظفين المنضويين تحت لوائه.
من خلال التسريبات المنظمة عبر الصحافة العالمية، تأكدت ملامح الإجراءات المقترحة من السلطات حتى قبل بدء مناقشتها مع صندوق النقد. يتعلق الأمر بالضغط على كتلة أجور الموظفين الحكوميين التي تستهلك حالياً أكثر من 19 مليار دينار تونسي (7 مليار دولار) أي نحو 60 في المئة من موارد الموازنة. هدف الدولة تقليصها إلى حدود 15 في المئة من المنتوج القومي الخام عوضاً عن 17.4 في المئة حالياً.
وبحسب ما أوردته الوكالات فإن هناك محوراً رئيسياً ثانياً للإصلاحات يتمثل في تعويض الاعتمادات المخصصة لدعم أسعار المواد الغذائية والوقود بمساعدات مباشرة للمعوزين بحلول سنة 2024.
محور ثالث هو تخفيف العبء الذي تتحمله الدولة جراء خسائر الشركات الحكومية التي تعاني من عجز في موازناتها نتيجة سوء التصرف وتضخم عدد موظفيها. في كل هذه الخطط يكمن الشيطان في التفاصيل. فالأجل الذي وضعته السلطات لنفسها للتخلص من أعباء صندوق التعويض وإزالة الدعم عن المواد الأساسية قصير جداً، وقد يفتح الباب أمام مطبات خطيرة إذا لم يسبقه إعداد ملائم. لا أحد يجادل في مبدأ توجيه الدعم لمستحقيه ولكن كيف سيتم توزيع هذا الدعم ومن سيحدد المليوني شخص تقريباً الذين سيستفيدون منه؟ وهل ستدفع الطبقة الوسطى وشريحة صغار الموظفين ثمن ارتفاع الأسعار بعد حجب الدعم عن المواد الاستهلاكية؟ فهؤلاء قد لا يصنفون على أنهم فقراء ولكنهم يعانون هم أيضاً من شظف العيش وقد تعقد الإصلاحات واقعهم. إضافة إلى ذلك يتساءل الكثيرون عما إذا كانت البلاد قادرة على تحمل التبعات الاجتماعية لهذا الجانب بالذات من الخطة، حتى إن لم يكن هناك سوء تقدير في وضعها موضع التنفيذ، اعتباراً للانفجارات الاجتماعية التي قد تتسبب فيها الزيادات في الأسعار. ولانتفاضات الخبز تاريخ في تونس وغيرها.
كما يبدو شيطان التفاصيل أيضاً ممسكاً بملف الضغط على كلفة الإدارات الحكومية وتقليص عدد موظفيها. إذ ليس هناك من ضمان كي يقبل الموظفون طوعاً على الصيغ المتوقع طرحها عليهم للعمل بجزء من الراتب مقابل ساعات أقل أو دفعهم إلى التقاعد المبكر والالتحاق بالقطاع الخاص. فاعتباراً للركود الاقتصادي العام قد تعني مغادرتهم الوظائف الحكومية انخراط أعداد متزايدة في الأنشطة غير النظامية التي تشكل بعدُ نصف الاقتصاد تقريباً.
المشكلة الإضافية هي أن تونس تسعى الى تطبيق هذه الإجراءات في ظروف هي أصلاً صعبة. وإذ تنشد تونس الحصول على قروض بقيمة 4 مليار دولار من صندوق النقد الدولي فهي تدري أن حجم تداينها الخارجي أضحى منذ سنوات مثيراً للانشغال. فالدين الخارجي يبلغ حالياً نحو 36 مليار دولار أي ما يقارب 100 في المئة من الدخل القومي الخام. وسوف تجد الأجيال القادمة بكل تأكيد صعوبة في تحمل التبعات الناتجة من قصر نظر الحكومات المتتالية.
وزيادة على ذلك هناك الصعوبات الظرفية الكأداء التي تضعها الجائحة على طريق أي انتعاشة اقتصادية. وفي ضوء التلعثم المسجل في حملة التلقيح والاضطراب الحاصل في تطبيق الإجراءات الوقائية وضعف البنية التحتية الاستشفائية، من غير المحتمل بتاتاً أن تكون تونس من بين البلدان الأولى التي تتجاوز الأزمة الصحية العالمية بما يسمح للدورة الاقتصادية بأن تعود على الأقل إلى سالف عهدها. يأمل التونسيون بوصول كميات أكبر من التلقيحات بسرعة كافية إذ لم يتسن إلى حد الآن تلقيح سوى 1 في المئة من التونسيين تلقيحاً كاملاً بالجرعتين. وكل شهر تأخير في التلقيح يكلف البلاد بحسب الخبراء نقطة واحدة من معدل النمو الاقتصادي، مما لا يمكن إلا أن يزيد في منسوب الفقر والبطالة بشكل يفوق ما يمكن أن تتحمله البلاد.
وإذ يدق المسؤولون التونسيون باب صندوق النقد الدولي فإنهم يعرفون أن مشاكل البلاد بلغت حداً متقدماً من التدهور لا يترك أمامهم أي حلول أخرى. من الأكيد أن الحكومة التونسية تتحرك تحت ضغط احتياجات آنية مفهومة ومخاوف واقعية من اهتزاز التوازنات المالية للبلاد. ولكنها تحتاج إلى رؤية بعيدة الأمد تتجاوز هنات الماضي والحاضر.
لا يمكن لتونس أن تخرج من عنق الزجاجة إن لم يكن الطموح أكبر من تأجيل الآجال وتسكين الآلام بالقروض الخارجية. فالبلاد تحتاج إلى خطة إصلاح متكاملة لتحفيز نسبة النمو فيها والتي بقيت تحت سقف 2 في المائة خلال العشرية الماضية وانكمشت بنسبة 8.8 في المائة السنة الماضية. ومن دون رفع نسق النمو لن يتسنى خلق مواطن شغل للآلاف المؤلفة من خريجي الجامعات ووقف نزيف هجرة الكفاءات وتعزيز الأرضية الاقتصادية التي تقف عليها الطبقة الوسطى المتآكلة.
غير أن صوغ رؤى بعيدة الأمد وتطبيقها يحتاجان إلى سياسيين قادرين على استشراف المستقبل وإقناع المواطنين بضرورة التضحيات القادمة. وهذه الكفاءات الحكومية تحتاج أن يوفر لها حد أدنى من الاستقرار. فكل شركاء تونس في الخارج يتطلعون للتعامل مع مخاطبين لا يتغيرون كل ستة أشهر وسلطات تنفيذية وتشريعية تتعاون مع بعضها أكثر مما هي تتصارع على الصلاحيات.
كل الفاعلين السياسيين التونسيين يعرفون ذلك. ولكنهم لم يقرروا بعد، رغم كل صفارات الإنذار، إن الوقت قد حان للجلوس حول مائدة الحوار والاتفاق على نموذج للمجتمع الذي يرتؤونه والاقتصاد الذي يودون بناءه والالتزامات التي هم مستعدون لتقديمها من أجل ذلك. يتطلب الأمر من الطبقة السياسية وعياً بأنها تؤسس لعقد اجتماعي جديد ينظم العلاقات بين الدولة والمجتمع بأسره، وليس مجرد الدخول في مفاوضات تقليدية مع الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين فقط.
حوار يعالج أوجاع وهنات سنوات وعقود خلت عجزت خلالها الدولة عن ضمان وتيرة من النمو الاقتصادي كفيلة بضمان التوازنات المالية للبلاد إلى جانب حماية الطبقات الضعيفة وتوفير الظروف الموضوعية لسائر جهات البلاد كي تستفيد من ثمار التنمية.
لا بد للأجيال السياسية المتلاحقة في تونس من التخلص من الغرور الزائف والأنانية المفرطة. فقد أظهرت السياسات السابقة محدودية التوجهات الليبرالية على صعيد تحقيق تنمية مستدامة وعادلة، فيما أظهرت سياسات الحاضر أن إجراءات التهدئة أمام ضغوط الاحتجاجات ليست الحل. فهي تحّول الدولة رجل مطافئ يتصدى للحرائق التي يشعلها المحتجون. بمنطق اليوم خمر وغداً أمر، تقوم بتشغيل الآلاف فوق طاقة المؤسسات الحكومية أو حاجتها وتصرف الاعتمادات الاستثنائية عوضاً عن الاستثمار في مشاريع التنمية التي وحدها يمكن أن تغير وجه البلاد وتبني مستقبله على أسس مدروسة. اليوم تحتاج النخب الحاكمة والأحزاب السياسية والنقابات وسائر المنظمات المؤثرة إلى التوافق على ملامح استراتيجية مستقبلية واضحة وإلى الاتفاق على قواسم مشتركة تضبط حقوق وواجبات الجميع من دون مزايدات أو شعارات شعبوية مضللة. فليس في تونس ثروات كامنة غير القيمة المضافة للطاقات البشرية الزاخرة التي يشكلها أبناؤها وبناتها.
ولا مخرج لها من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الراهنة من دون إعادة الاعتبار لثقافة العمل والإنتاجية في إطار توافقات صعبة ولكنها ممكنة لإنقاذ البلاد. فقد كانت التحركات والاعتصامات والقرارات العشوائية بعرقلة الإنتاج في عدة قطاعات، مثل الطاقة والفوسفات، مكلفة جداً للمجموعة الوطنية.
طرح كل هذه التساؤلات على هامش المفاوضات مع صندوق النقد الدولي سلط بعض الضوء حول قضايا اقتصادية شائكة لم تنل حظها خلال السنوات العشر الأخيرة. وهي بداية جد متأخرة للانكباب على مسائل تفرض نفسها على الجميع، بمن فيهم من لا يزال يعتقد أن مغالبة الخصوم السياسيين تبقى الأهم حتى إن غاب للخصومات أي معنى في ظل الأزمة الحادة التي قد تأتي على الأخضر واليابس.