بقلم: د. محمد عاكف جمال – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – قد يتبادر لذهن الراصد لمسارات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة، أن السياسة الخارجية الأمريكية لعبة بيد الرئيس، يديرها بمزاجه كيفما يشاء، خاصة وهو يرى الرئيس الديمقراطي جو بايدن، يُقوض ما بناه سلفه الرئيس الجمهوري دونالد ترامب.
الصورة ليست بهذه البساطة، فالولايات المتحدة دولة مؤسسات، يلعب فيها مجلساها الرئيسان، النواب والشيوخ، دوراً رئيساً في صياغة جميع القرارات التي ترد على لسان الرئيس. فهناك مصالح استراتيجية للدولة الأمريكية، لا يختلف حولها الحزبان الرئيسان، الديمقراطي والجمهوري، ولا يستطيعان، بل لا يجرؤان، على المساس بجوهرها، غير أن أساليب مقاربة هذه المصالح، ووضع استراتيجيات تحقيقها، هي المختلفة.
المهتمون بالسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، والدارسون لتفاصيلها وتداعياتها على المستويات كافة، تنظيراً وممارسة، بحاجة لتفهم حقيقي لأبعادها، فذلك من شأنه أن يجعل طموحاتهم وأحلامهم أكثر قرباً للواقع، خاصة ما يتعلق بمستقبل العلاقات الأمريكية، وبالتالي الدولية، مع إيران، وانعكاسات ذلك على التوازنات الهشة القائمة في المنطقة. واشنطن في عصور جميع رؤساءها الستة السابقين للرئيس بايدن، ديمقراطيون وجمهوريون، منذ «الثورة» في إيران عام 1979، التي أعلنت، وبشكل صريح، عداءها للولايات المتحدة، لم تعمل على إغلاق بوابات الحوار مع طهران، بل حرصت على إدامتها مباشرة أو عبر وسطاء، فهي ترى، وهي ترسم استراتيجياتها في المنطقة، أن إيران تقبع في قلب ذلك، وفي صميم عمقه. واشنطن لم تخطط في الماضي، ومن المستبعد أن تخطط الآن أو في المستقبل المنظور على المواجهة العسكرية مع طهران، أو لتكون على قطيعة نهائية معها. إلا أنها في الوقت نفسه، لا تستطيع تجاهل التزاماتها وواجباتها الدولية كقوة عظمى في العالم.
يذهب البعض في سياق قراءاته لمسارات الأحداث، إلى أن اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط، لم يعد كما كان، فهي تركز اهتماماتها على شرق آسيا، حيث يتعاظم النفوذ الصيني، الذي بدأت الولايات المتحدة تتحسب له. هناك خطأ بيّن في هذه القراءة، فمنطقة الشرق الأوسط لم تفقد أهميتها الاستراتيجية في المنظور الأمريكي، لأن ثوابت هذه الأهمية باقية لم تتغير، فهي لا تزال الأغنى في العالم، باحتياطياتها من النفط والغاز، وهي تضم خطوط ملاحية دولية رئيسة، وهي المدخل الجغرافي إلى القارات الثلاث، آسيا وأوروبا وأفريقيا، ويتركز فيها أمن إسرائيل، وتشهد من التوترات الدائمة، ما يجعلها موضع اهتمام عالمي شبه دائم.
بروز الصين كقوة اقتصادية عظمى، وبروزها كقوة عسكرية صاعدة، تبني قدراتها الفضائية بشكل مستقل عن قدرات وكالة الفضاء الدولية، يضاعف من قلق الولايات المتحدة على مستقبل التوازنات الدولية القائمة، ليس في بحر الصين فحسب، بل بمستقبل هذه التوازنات على المستوى العالمي، وخاصة في الشرق الأوسط. طريق الحرير الذي تسعى الصين إلى استكمال مده إلى أوروبا، لن يكون من غير المرور بمنطقة الشرق الأوسط، مائياً وسككياً وبرياً، وما يترتب على ذلك من اتفاقيات تعقدها دول المنطقة التي تمر فيها طرق التواصل هذه مع الصين، التي ستعزز جراء ذلك نفوذها في هذه المنطقة.
في ضوء ذلك، من المستبعد جداً أن تسمح الولايات المتحدة للصين، بتقويض النظام الدولي القائم، الذي تتزعمه كقوة عظمى وحيدة، وهو ما ورد على لسان وزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، في الثالث من مايو الحالي، في معرض تصريح أدلى به لشبكة «سي بي إس»، في اعتراف ضمني بأن «الصين هي الدولة الوحيدة في العالم التي لديها القدرات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، لتقويض أو تحدّي النظام القائم على قواعد نتمسّك بها بشدّة، ومصمّمون على الدفاع عنها».
الفجوة القائمة بين الطرفين، آخذة في الاتساع، وعلى الرغم من أن التنافس على زعامة الجيل الخامس من تكنولوجيا المعلومات، هو ما يتردد أكثر من غيره في وسائل الإعلام، إلا أن الخلاف الحقيقي يتمحور حول صياغة النظام العالمي، الذي بدأت الصين تتحدى بنيانه. فرص تحسين العلاقات بينهما آخذة بالتراجع، في ضوء تزايد القناعة لدى الصين بأن موازين القوى آخذة في الميل لصالحها، وهو ما يذهب إليه بعض خبراء الاستراتيجيات الدولية.