بقلم: د. عمار علي حسن – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – دفعت الأخطار العلاقات المصرية السودانية إلى مساحة من التفاهم القوي الجلي، وشهدنا في الشهور الأخيرة لقاءات قمة، واجتماعات لكبار المسؤولين، ومناورات عسكرية مشتركة، لكن الروابط الأعمق تكون بين الشعوب، إذ تتقلب السياسة بلا هوادة، وتتغير المصالح، ويأتي جفاء ويذهب، أما تفاهم الناس فهو الأدوم.
هنا نجد ريحاً وروحاً طيبة يحملها السودانيون حيال مصر، ويحملها المصريون حيال السودان، لاسيما في أيام الشدة، غير منساقين وراء دعايات مريضة، تريد بث الفرقة بين الشعبين، وتصدر صوراً تاريخية مغلوطة.
ويمكنني في هذا المقام أن أذكر واقعة واحدة لمست فيها هذا عن كثب. فذات يوم حاول البعض أن يطلق فرقة في فضاء ندوة حاشدة بقصر الثقافة، باستدعاء أفكار متعصبة، رداً على الأديب المصري الكبير محمد المنسي قنديل، حين تحدث عن العبودية، من واقع روايته البديعة «كتيبة سوداء»، وكيف كان تجار الرقيق يأسرون الناس عنوة من عمق القارة السمراء، ويحملونهم إلى سوق الجلابة بالقاهرة قبل قرون.
قبلها كان قنديل محل حفاوة من كل الذين يقابلونه، مذكرين إياه بكتاباته التراثية في مجلة «الدوحة»، حين تولى السوداني الدكتور محمد إبراهيم الشوش رئاسة تحريرها بتزكية من الروائي الكبير الطيب صالح.
توالت المداخلات التي تنتقد قنديل، وهو يقابلها بابتسامة، لأنه واثق أنه لم يقصد إساءة لأحد، وأنه ما كتب هذه الرواية سوى لمقت العنصرية، وإدانة تجار الرقيق، وعقلية الاسترقاق، والانتصار لحرية الإنسان، إلى جانب الأهداف الفنية التي دعته إلى إبداعها.
طلبت مداخلة، وقدمت نفسي قائلاً: عمار علي حسن من وادي النيل، فصفق الجالسون. كنت قد ذهبت لأتسلم جائزة «الطيب صالح» عن رواية «بيت السناري»، وبطلها هو رجل سوداني اسمه «إبراهيم السناري»، بيع في سوق الرقيق، واشتهر بأعمال التنجيم، فتقرب من علية القوم، حتى صار نائب حاكم القاهرة، والذي كان وقتها هو مراد بك، ثم بنى بيتاً فخيماً بمعيار زمنه. وكان البعض قد سمع عن روايتي هذه، فقلت حكايتها باختصار، وتحدثت عن سودانيين دخلوا قلوب المصريين وتاريخهم، مثل إبراهيم السناري، ومحمد أحمد المهدي، ومحمد عثمان البرهاني، ومحمد الفيتوري، والطيب صالح، وكان أول رئيس لمصر بعد يوليو 1952 محمد نجيب جسراً بين البلدين، فأبوه مصري، ووالدته سودانية، وبدا للمصريين كأنه قد أتى إلى القاهرة صغيراً سابحاً في مياه النيل، فسكن ماؤه العذب شرايينه، وسكن طميه مسامي جلده.
واصلت كلامي: اعتبروني عضواً في حزب «الاتحاد السوداني». كنت أعرف طرفاً من تاريخ هذا الحزب، الذي أضعفته الأيام، وكيف تقوم عقيدته السياسية على الدفاع عن وحدة السودان ومصر، فراق قولي للجالسين، فصفقوا مرة أخرى. وبعدها اختلفت لهجة المداخلات، وتحدث الناس عما يجمع بينهم، لا ما يفرق، وتغاضوا، ولو مؤقتاً عن الإحن، التي صنعها نابشو التاريخ، وتجار الأزمات السياسية، ومروجو ثقافة الكراهية، والناظرين إلى «الشين» في كل شيء.
كان هذا النقاش يجري في قاعة ليس بينها وبين مجرى النيل سوى شارع ليس واسعاً، تجري عليه السيارات في الاتجاهين، وعلى مقربة منها كان يقع بيت رئيس الجمهورية، وكان في الأصل بيت مهندس الري المصري الذي أقام سنوات طويلة في الخرطوم قبل الانفصال عن مصر عام 1956، ليصبح السودان دولة مستقلة ذات سيادة.
الرئيس في بيت الري، والقاعة إلى جوار النيل، والنهر يجري من هناك إلى هنا. يقطع السودان بطوله، ومصر كذلك، كالأورطى، ذلك الشريان الذي يوصل الدم إلى الجسم كله، إنه جسم كتلة جغرافية واحدة جمعها النيل والتاريخ والهجرات المتبادلة والانشغال والتزاوج.