بقلم: الحسين الزاوي – الخليج الإماراتية
الشرق اليوم– ارتفع في الشهور الأخيرة مستوى التوتر في العلاقات بين موسكو وواشنطن بشكل غير مسبوق، وبخاصة منذ وصول إدارة بايدن إلى الحكم. ويأتي هذا التوتر المتصاعد؛ ليمثل استئنافاً للمواجهة التي سبق أن دشنها الحزب الديمقراطي في عهد الرئيس باراك أوباما على خلفية مزاعم تتعلق بتدخل روسي محتمل في انتخابات الرئاسة سنة 2016. ومن الواضح أن واشنطن تريد من خلال تصعيد المواجهة مع موسكو، أن تعيد تنشيط تحالفها التاريخي مع أوروبا؛ عبر تفعيل دور حلف الناتو؛ وذلك بالتزامن مع القيام بتوظيف جديد للفزاعة الروسية، انطلاقاً مما تصفه بتهديدات موسكو لجيرانها وللأمن السيبراني في القارة العجوز.
ويشير الخبراء إلى أن أوروبا التي تعدّ أصغر القارات مساحة والتي ترتبط بشكل ملفت للنظر بالفضاء الجيوسياسي لأوراسيا، تأسّست تاريخياً ككيان مسيحي على خلفية الخوف من الغرباء ومن الغزوات القادمة من الشرق، وقامت دولها ببناء تحالفاتها استناداً على خيار المواجهة مع الحضارات المنافسة لها وفي مقدمتها روسيا الأرثوذوكسية والإمبراطورية الصينية والحضارة العربية الإسلامية، ومن ثم فإن الأوروبيين لديهم ميل طبيعي إلى التجمّع في خندق واحد من أجل التصدي للخطر القادم من الشرق الذي تمثل روسيا بوابته الكبرى المفتوحة على كل الاحتمالات، وتسعى الولايات المتحدة، بشكل مستمر، إلى استثمار هذا «الخطر الروسي» المزعوم من أجل المحافظة على تبعية أوروبا لها، وبخاصة بعد أن تحوّلت هذه القارة منذ الحرب الباردة إلى ساحة للمواجهة بين واشنطن وخصومها في أوراسيا.
وعليه فإنه وفي ظل تزايد مخاوف الأوروبيين بشأن الأفول المحتمل لحضارتهم، يجري البحث بشكل مستمر عن خصم أو عدو تقليدي، بتحريض من أوروبا الشرقية وبتوجيه جيوسياسي متواصل من أمريكا في أقصى الغرب؛ ولن يكون هذا الخصم، بطبيعة الحال، متمثلاً في الصين البعيدة والمنغلقة على نفسها ثقافياً، ولا على ارتباط بالدول الإسلامية التي تعاني في مجملها التخلف والصراعات الداخلية؛ لكنه سيكون متمثلاً في روسيا القريبة جغرافياً والمتقدمة حضارياً وعلمياً والتي تمتلك قدرات هائلة في إدارة الحروب التقليدية والتكنولوجية، وستمثل بذلك أفضل أنواع الفزاعات التي يمكن لواشنطن تحريكها من أجل دفع حلفائها إلى الإبقاء على هيمنة المظلة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية على أوروبا.
وعليه فإنه وعلى الرغم من تعدّد الأسباب التي تدفع الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى رفض التعامل مع روسيا بناءً على قواعد العلاقات الدولية المتوازنة، إما بسبب الخوف من إمكانية تهديد أمن جيرانها في شرق القارة، وإما بدعوى افتقارها للديمقراطية وممارستها للحكم «الاستبدادي»؛ إلا أن الغرب داخل أوروبا وخارجها يصرّ، كما فعل منذ قرون عديدة، على النظر إلى روسيا كجسم غريب عن الحضارة الأوروبية تارة وكمصدر للتهديد وعدم الاستقرار تارة أخرى؛ حتى وإن كانت حروب القرنين الماضيين قد أثبتت أن السياسات التوسعية لدول مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا كانت أكثر تهديداً لاستقرار القارة من سياسات موسكو منذ تأسيس الإمبراطورية الروسية من طرف بطرس الأكبر.
أما بالنسبة إلى الدعاوى التي تذهب إلى أن امتلاك روسيا لثاني أكبر ترسانة نووية في العالم وتبنيها لنظام سياسي لا يحترم حقوق الإنسان والتداول السلمي على السلطة، تمثل مبرِّرات تجعل قوتها العسكرية الضاربة عنصراً مهدِّداً للسلم الدولي؛ فإن التجارب الدولية أثبتت أنه لا وجود خارج المنظومة الغربية، لأي دولة لجأت، حتى الآن، إلى استعمال أسلحة الدمار الشامل في حروبها مع الآخرين.
ونستطيع أن نخلص إلى أنه وعلى الرغم من إصرار أمريكا على شيطنة روسيا وعلى دفع الأوروبيين إلى رفض التعاون معها، فإن دولاً مثل فرنسا ما تزال تتعامل معها وفق مقاربة تخدم مصالحها وترى في عزلها خطراً يهدّد أمن القارة، ولا تجد دول، في شرق القارة، مثل هنغاريا حرجاً في استعمال اللقاح الروسي، كما أن ألمانيا ما تزال تعبِّر عن رفضها للضغوط الأمريكية وتُصرّ على إتمام مشروع أنبوب «السيل الشمالي 2» الذي سيوثق روابطها الاقتصادية مع موسكو؛ لأن التحالف الأوروبي مع واشنطن لا يعني بالضرورة تطابقاً كاملاً في المصالح بين الجانبين.