بقلم: سليمان جودة – الشرق الأوسط
الشرق اليوم- لا أعرف ما إذا كانت نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية الليبية، تملك حق خوض الانتخابات المقبلة في بلادها أم لا؟!… ولكن ما أعرفه مما أتابعه أنها ستفوز بجدارة، لو أنها خاضت السباق على مستواه البرلماني، حتى مستواه الرئاسي.
الانتخابات ستجري في 24 ديسمبر (كانون الأول)، والحكومة التي تتولى المنقوش حقيبة الخارجية فيها جاءت إلى مقاعد الحكم قبل شهرين من الآن، وهي قد جاءت لأهداف محددة، أهمها إعداد البلاد لإجراء عمليات الاقتراع في موعدها من دون تأخير!
ولأن هذا هو الهدف الأهم، فوزيرة الخارجية تعمل من أجله منذ اللحظة الأولى التي تسلمت فيها مهام منصبها، ولا تسمح للتفاصيل أن تشغلها عن هذا الهدف، ولا تجد فرصة مواتية إلا وتسارع خلالها إلى تذكير الجميع بأن البلد ذاهب إلى استحقاقات انتخابية بعد شهور تكاد تكون معدودة على أصابع اليد الواحدة، وأن هذه الاستحقاقات في حاجة إلى أرضية مناسبة تجري فوقها.
تفعل هذا بغير توقف، وتمارسه من فوق أرضية وطنية مجردة، وتذهب إليه في كل مرة وهي تدرك أن منصبها الذي تتولاه يمثل مسؤولية عليها تجاه كل ليبي، وأنه تكليف لا تشريف، وأنها مكلفة بأن تنهض بمسؤولياته وفق مقتضياته الواجبة.
تفعل ما تفعله وهي تعرف أن غسان سلامة، المبعوث الأممي الأسبق إلى ليبيا، كان قد قال ذات يوم إن الأراضي الليبية تمتلئ بقطع السلاح ذات الأنواع المختلفة، وإن تقديراته تقول إن عدد هذه القطع يصل إلى 20 مليون قطعة!
وعلينا بالطبع أن نتصور عواقب وجود هذا العدد من قطع السلاح في بلد بحجم ليبيا، من حيث المساحة التي تمتد نحو 2000 كيلومتر على شاطئ المتوسط، ثم في بلد تغلب عليه الطبيعة القبلية في أقاليمه الثلاثة؛ طرابلس في الغرب، وبرقة في الشرق، وفزان في الجنوب.
وإذا شئنا الدقة أكثر قلنا إن وجود هذا العدد من قطع السلاح، لا علاقة له في حقيقة الأمر بالطبيعة القبلية أو غير القبلية، لأن السلاح في النهاية سلاح، أياً كانت اليد التي تحمله بخلاف يد الدولة نفسها، كما أن خطورته هي نفسها بصرف النظر عن الطبيعة القبلية في البلد أو غير القبلية. ففي اليوم الذي نشأ فيه مفهوم الدولة نظرياً، ثم قامت فيه الدولة عملياً، جرى التأكيد على أن وجود السلاح في غير يد الدولة الوطنية من دون ترخيص، إنما هو خطر ماثل، ولا بديل أمام أجهزة الدولة المعنية سوى التعامل معه بكل جدية ممكنة.
وهذا ما يجعل الوزيرة المنقوش تدعو في كل مناسبة إلى خروج أي عنصر مرتزقة من بلادها، وكذلك خروج كل ميليشيا تكون قد جاءت بأي سبيل، لأنه لا يمكن الحديث عن انتخابات آمنة حتى ممكنة، بينما الكلام عن مخاطر وجود الميليشيات والمرتزقة لا يدور في السر، ولكنه يقال على مسمع من الجميع، بمن في ذلك بالطبع أعضاء الحكومة التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة!
ولا تجد الوزيرة حرجاً في أن تؤكد على موقفها في قضية الميليشيات أمام كبار المسؤولين الأتراك أنفسهم، وكان الدليل على ذلك أن مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، لما زار البلاد مؤخراً، ثم وقف في ختام الزيارة يخاطب الإعلام مع نظيرته الليبية في مؤتمر صحافي، فوجئ بها تُسمعه ما يجب أن يسمعه، وما يجب أن ينقله إلى الحكومة في أنقرة!
فالمثل الشعبي يقول ما معناه إن على الذي «حضّر» العفريت أن يصرفه، والعفريت في ليبيا ليس عفريتاً واحداً ولكن العدد أكبر بكثير، ولا نزال نذكر أن السفيرة الأميركية ستيفاني ويليامز، الرئيسة السابقة بالإنابة للبعثة الأممية في ليبيا، هي التي قالت صراحة، إن في البلاد من عناصر الميليشيات والمرتزقة ما يتراوح بين 17 و20 ألفاً، وإن هؤلاء على حد تعبيرها لم يدخلوا الأراضي الليبية على سجادة حمراء!
هكذا قالت نصاً، وكان المعنى أنهم جاءوا بالطائرات التركية تحملهم من أكثر من مكان، وأن عليهم أن يخرجوا بالطريقة التي جاءوا بها!
كل عنصر ميليشياوي هو في حقيقته عفريت «حضّرته» تركيا في طرابلس وعلى شواطئها، وكذلك الحال مع كل مرتزقة، وبحسب المثل الشعبي الشائع فإن على الذي «حضّر» العفريت أن يصرفه، لأنه أدرى الناس بالطريقة التي من الممكن صرفه بها!
تضع المنقوش هذا العدد من الميليشيات والمرتزقة، الذين تحدثت عنهم السفيرة الأميركية، إلى جوار ذلك العدد من قطع السلاح التي تكلم عنها غسان سلامة، ثم تتخيل شكل الانتخابات التي يراد عقدها في ظل وضع من هذا النوع، فتعجز عن تخيله، ولا ترى سباقاً انتخابياً ممكناً ما دامت العناصر الميليشياوية في أماكنها لم تغادر، وما دامت قطع السلاح في غير يد الدولة!
وهي لم تشأ أن تردد ما تردده في العاصمة طرابلس فقط، ولا في المؤتمرات الصحافية مع نظرائها في كل دولة وكفى، ولكنها طارت إلى الجنوب، وجلست مع الناس هناك وهي ترتدي زياً مثل زيهم، ثم تحدثت معهم بما تتحدث به في كل محفل رسمي لعله يصل إلى كل أُذن يتعين أن يصل إليها.
ولكن المفاجأة كانت في أن دعوات انطلقت إلى إحالتها للتحقيق مرة، ثم إلى إقالتها مرات، ولا تزال هذه الدعوات الشاذة تنطلق من هنا ومن هناك، بغير حياء وبغير خجل، وكأن الوزيرة وقفت مع الميليشيات ودعمتها، أو كأنها اصطفت إلى جوار المرتزقة ثم دعت إلى حمايتهم. ولا بد أن مثل هذه الدعوات مما سوف يؤرخ له ذات يوم، فيقال إن وزيرة الخارجية التي تمسكت بحق بلادها في أن تعيش آمنة، قد عوقبت بدعوات لإزاحتها من موقعها الرسمي، الذي يفرض عليها ما تقوله بشجاعة تظل محسوبة لها.
وقد كان الأمل بدلاً من هذه المفاجأة أن تتلقى المنقوش مكافأة، وأن تحصل على أعلى وسام ليبي، لأن انحيازها الدائم كان إلى المواطن الليبي الذي من حقه أن ينعم بثروات بلاده، وألا يشاركه فيها أتراك ولا غير أتراك. كان حق المواطن الليبي في أن يعيش حياه آدمية، هو رهانها منذ جاءت، ولا يزال، وكان حقه في أن يأمن في بيته وفي عمله هو محور تفكيرها، ولا يزال أيضاً.
ولكن المفاجأة الكبرى كانت في صمت الدبيبة إزاء دعوات الإقالة والإحالة للتحقيق، وقد كان المتوقع أن يدافع عن وزيرته التي اختارها في هذا الموقع السيادي، وأن ينصح أصحاب الدعوات بأن يسكتوا، وأن يبعث إليهم من الرسائل السياسية ما يفهمون منه أن الوزيرة جاءت ضمن حكومة وطنية، وأن هذه الحكومة موجودة إلى يوم إجراء الانتخابات، التي ستقود إلى تسليم البلاد لسلطة منتخبة تدير شؤونها وثرواتها.
المنقوش حالة وطنية ليبية تدعو إلى الإعجاب، لأنها بأدائها السياسي تنصر مفهوم الدولة الوطنية على كل ما عداه من مفاهيم، ولأنها تقدم مصلحة البلد العليا على كل ما سواها، ولأنها تتصرف كوزيرة مسؤولة تدرك أن عليها أن تضع صالح مواطنيها فوق كل اعتبار!