بقلم: فارس خشان – النهار العربي
الشرق اليوم- مع اقتراب موسم الاصطياف وانحسار أحدث موجات جائحة كوفيد-19 والتوسّع في حملات التلقيح، بدأت دول عدة تخفّف من إجراءاتها الوقائية التي قلبت عادات المواطنين رأساً على عقب.
فرنسا، كانت اليوم على موعد هو الأهم على روزنامة إعادة الحياة، تدريجياً، الى طبيعتها، فسمحت بإعادة فتح دور السينما والمسرح والمتاحف والمحال التجارية والباحات الخارجية لمطاعمها التي تبقى صالاتها المغلقة مقفلة حتى التاسع من حزيران (يونيو) المقبل، كما خفّفت السلطات من إجراءات حظر التجوّل، بحيث بات تطبيقه يبدأ، في التاسعة من مساء كل يوم، على أن يصبح في التاسع من الشهر المقبل، في الحادية عشرة ليلاً، قبل أن يختفي نهائياً في آخره.
وفيما بقيت الشوارع السياحية “شبه خالية”، كان جليّاً أنّ مقاهي الأحياء السكنية قد شهدت حركة كثيفة، منذ ساعات الصباح الأولى، وعبّر روّادها عن سعادتهم بالعودة الى حياة “شبه طبيعية”، بعدما “عرفوا القيمة الحقيقية لما كانوا قد ظنّوه، بفعل الاعتياد، سخيفاً”.
وقد حرصتُ على مواكبة هذه “التجربة الإنسانية”، برفقة عدستي الهاتفية، إنطلاقاً من النموذج الباريسي، فكانت هذه المقالة التي واكبت تحضيرات “فتح البلاد” وواكبت ساعات “الحدث الأولى”.
هذا الصباح عادت باريس إلى نفسها: الى قهوة الرصيف، إلى المسرح، إلى السينما، الى المتحف، الى المتاجر، الى التجمّعات التجارية، إلى الفنادق، وإلى… التلاقي.
بلا كلّ ذلك، باريس كانت اسماً لغير مسمّى على مدى أشهر كانت أطول من الدهر، فهذه المدينة لا تُحييها غريزة البقاء، لأنّ جيناتها مكوّنة من الإغراء، ولأنّ منازلها ليست للسعادة وللحب وللمتعة، بل للنوم.
هذا الصباح، عادت الحياة الى باريس، والبسمة الى محيّا سكانها الذين يتصرّفون كأنّهم يخرجون من حرب عالمية، خسروا فيها الكثير إلّا… الأمل.
بعد ساعات لن يعود أحد يشعر بالفرق بين ما كانت عليه باريس، طوال فترة “الإجراءات الوقائية” ضد فيروس كورونا، وبين ما أصبحت عليه مجدّداً، فالعودة الى الأماكن المفقودة، مثلها مثل لقاء حبيبين، تُلغي مرارة الفراق، بمجرّد أن تنقضي لحظات الدهشة الأولى.
إنّ الحاجة الى حدث مفرح في عالمنا الكئيب الذي نتابع تأوّهاته وأنينه في القدس وغزّة وبيروت ودمشق وبغداد والخرطوم وصنعاء وطرابلس الغرب، جعلني أترقّب عودة الحياة الى باريس، كما يترقّب الزوج أن تقدّم له زوجته من رحمها طفلاً، وكما ينتظر التائه في صحراء وصوله الى واحة غنّاء، وكما ينتظر المعتقل لحظة الإفراج عنه.
جلتُ، طوال يوم أمس، في الأحياء التي كنتُ أقصدها قبل أن تفرض علينا الموجتان الثانية والثالثة التي عصفت بهما جائحة كوفيد-19 “شروط البقاء على قيد الحياة”، فعثرتُ على ضالتي، عند أصحاب المطاعم الذين كانوا يضعون اللمسات الأخيرة لملاقاة ساعة الافتتاح.
بدوا مثلهم مثل من يجهّز نفسه للإحتفال بعيد جماعي. رموا همومهم جانباً، وانهمكوا في التحضيرات.
قبل أن تأذن ساعة ارتشاف فنجان قهوة أو التمتع باختيار الشهي من قائمة طعام، والتسكّع مثرثراً مع صديق على الرصيف الذي عادت إليه الطاولة والكرسي، وجدتُ نفسي أستهلك نفحة حياة.
هذه أنانية. أدرك ذلك.
أنانية أن أستهلك نفحة حياة وأتناسى، ولو للحظات، أنّني، مهما “شرّقت وغرّبت”، فأنا أنتمي الى دولة من دول منظومة لا تقيم اعتباراً إلّا لحفّاري القبور. منظومة يقودها فيروس بشري، لم تعثر بعد المختبرات على لقاح ضد إجرامه وتبعيته وفساده وغبائه وطغيانه، ولا ينفع ضدّه لا التباعد الاجتماعي، ولا الكِمامات، ولا الأدوية.
أنانية أن أعيش فرحة ولادة جديدة، فأهلي ليس لديهم ما يحتفلون به. أطفالهم بلا حليب. شبابهم بلا رجاء. شيبهم بلا دواء. وطنهم بلا دولة. أموالهم أرقام في دفاتر مصرفية وهمية. غدهم مثل كهربائهم، مجرد “وعد بالظلمة”.
ما أقسى أن تكون عربياً، في عالم يهلّل لاستعادة حياته!
أن تكون عربياً يعني أن تلوم نفسك إن أفرحك حدث، وإن ارتسمت ابتسامة على شفتيك، وإن هلّلتَ لنجاتك، وإن نسيت للحظات نفسك.
أنت عربي يعني أنّك شريك في النوائب والمصائب والأحزان، ولكنّك هامشي في صناعة القرار واختيار القيادات وصياغة الأفكار واجتراح الحلول.
أصلك لا يتيح لك سوى أن تكون ندّاباً، تحت طائلة أن يقتلك ضميرك، بعد أن تكون قد نجوتَ من سلطان “قبّاض الأرواح”.
هذا الصباح، نظرتُ في أسعار قائمة المأكول والمشروب في “المطاعم الرصيفية” التي تفتح أبوابها، حتى التاسع من حزيران (يونيو) المقبل إلى التاسعة مساء فقط، “فقرّشتها” على العملات الوطنية في دول “محور الممانعة”، فانفطر قلبي، ليس لأنّ ثلاثة أطباق “تارتار دو بوف”، في مطعم “بلا نجوم” تتخطّى الحد الأدنى للأجور، فحسب بل لأنّني، أيضاً، أدركت أنّ أحبّ من كنتُ ألتقي بهم، في صخب الحياة الباريسية، لن يأتوا.
هنيئاً لكم باريس، يا شعوباً يحكمها عشّاق الحياة، أمّا نحن الذين يحكمنا “حفّارو القبور” فليس لنا ممّا يُسعد الآخرين نصيب.