بقلم: وليد فارس – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- بينما تنهمر الصواريخ على المدن الإسرائيلية من جهة، وتسقط القنابل على المباني في غزة من جهة أخرى، دخل الشرق الأوسط عموماً والساحة الإسرائيلية- الفلسطينية خصوصاً في مواجهة عسكرية مرعبة، وذلك نظراً لما تدمر على أرض الواقع ولما يتجه المستقبل إليه، إذا لم تتوقف المواجهة. المدنيون على طرفَي الصراع يعانون وخائفون، والحكومات الإقليمية والدولية قلقة من تطورات قد تطيح بمعظم المبادرات التي يجري العمل عليها في المنطقة، سواء كان “الاتفاق النووي الإيراني” أم “معاهدات إبراهيم”. بل ربما أكثر من ذلك، أي اندلاع حرب إقليمية شاملة من غزة إلى إسرائيل، فلبنان، وسوريا، والعراق، وصولاً إلى إيران نفسها، وربما دول الخليج.
وفي هذه الدوامة المتصاعدة تجد واشنطن نفسها في موقع معقد وصعب. إذ إن إدارة الرئيس جو بايدن، وعمرها أقل من أربعة أشهر، تواجه عدداً كبيراً من الأزمات في العالم من روسيا وأوكرانيا، وإثيوبيا، وكذلك في الشرق الأوسط بما فيها ناغورنو- قره باغ، وتركيا، وليبيا، واليمن، والانسحاب من أفغانستان، والتحدي الإيراني في الخليج، والتدهور بين اليونان وتركيا، وعودة بعض فلول “داعش”، والتواجد في العراق وشرق سوريا، إلى ما هنالك من أزمات. إلا أن انفجار الأوضاع بين “حماس” و”إسرائيل” في غزة، فاجأ الإدارة ويكاد أن يخلخل السياسة الأميركية في المنطقة، ويفجر انقسامات جديدة في واشنطن. من هنا نطرح السؤال حول القرار الأميركي تجاه هذا الملف العائد بدويّ كبير. فلنبحث عن موقف الإدارة والكونغرس والمعارضة واللوبيات تجاه حرب غزة الجديدة.
الموقف الأميركي التقليدي
منذ عقود، كان الموقف الأميركي تجاه إسرائيل والفلسطينيين ثابتاً ومرتكِزاً على قاعدة شعبية واسعة داخل البلاد. فلأسباب غير سرية ومعروفة، أيّدت مختلف الإدارات الأميركية منذ عام 1947 وجود دولة إسرائيل، بخاصة بسبب ما حل باليهود في المحرقة (Holocaust). ووقف اليسار الليبرالي والمحافظون الأميركيون معاً خلف موقف كهذا. وبعد نهاية الحرب الباردة، طرأ تغييران على هذه المعادلة. داخل اليسار، ظهر تيار أكثر راديكالية رفض الموقف اليساري التقليدي وضغط باتجاه التشدد مع إسرائيل والتحالف مع الفصائل الفلسطينية، وبدأ صعوده القوي إبان فترة حكم الرئيس الأسبق باراك أوباما. في المقابل، تصاعد تيار الإنجيليين المؤيد القوي لإسرائيل عقائدياً، لا سيما في فترتَي الرئيسَين السابقَين جورج دبليو بوش ودونالد ترمب. وركّز هذا التيار في ضغطه، على الدعم المطلق لإسرائيل بما فيه موضوع القدس، والجولان وجزء من الضفة. أضف إلى ذلك ضغط اللوبيات والرأي العام. فلإسرائيل لوبي قوي في الحزبين، ولإيران لوبي متصاعد، كما لدول التحالف العربي أيضاً نفوذ لدى مختلف مراكز القرار.
من هنا، فإن الموقف الأميركي الناتج من كل هذه التأثيرات تلخص في الرئاستين السابقتين كما يلي:
إدارة أوباما رفعت الضغط قليلاً على إسرائيل، وبخاصة على حكومة بنيامين نتنياهو، فرفضت نقل السفارة إلى القدس، وضم الجولان، أو أي أراضٍ أخرى، ودعمت السلطة الفلسطينية مالياً، وضغطت باتجاه مفاوضات واسعة. إلا أنها إقليمياً دعمت الإخوان المسلمين، ووقعت الاتفاق النووي مع إيران، فاختلفت مع الدول العربية الرئيسة في المنطقة. أوباما كان أكثر قرباً إلى الفلسطينيين، لكنه اقترب منهم عن طريق إيران والإخوان. ضف إلى ذلك أن أوباما تخلّى عن “الثورة الخضراء” في طهران، و”ثورة الأرز” في بيروت و”ثورة 30 يونيو” (حزيران) في القاهرة. إلا أن إدارته كانت تقف مع إسرائيل في المواجهات العسكرية، فحزبه لا يمكن أن يتحمل الوقوف ضد الأمن الإسرائيلي، بخاصة إذا كانت المواجهة مع “حماس”.
أما إدارة ترمب فذهبت باتجاه آخر. نقلت السفارة إلى القدس، اعترفت بسيادة إسرائيل على الجولان، انسحبت من الاتفاق النووي، واجهت إيران في المنطقة، ودعمت التحالف العربي بمواجهة إيران والتكفيريين (الجهاديين في لغة الغرب). صعّدت ضد “حماس” و”حزب الله”، واعترفت بمشروعية ثورات أكتوبر (تشرين الأول) من إيران إلى لبنان. والأهم هو أن ترمب وضع “معاهدة إبراهيم” تحت حماية خيمة الولايات المتحدة.
تذبذب المعادلة
وكأن المعادلة تجاه إسرائيل وفلسطين في واشنطن، ترقص ما بين موقف حميم مع إيران وبارد مع إسرائيل والعرب في ظل حكم أوباما، وبين موقف حاد مع إيران وصديق للعرب وإسرائيل إبان ولاية ترمب. ويعتبر أنصار ترمب أن موقف رئاسة بايدن تجاه غزة وإسرائيل متذبذب، لأنها لم تحسم أمرها بعد. فهي تريد “التهدئة” مع النظام الإيراني لكي تتمكن من العودة إلى الاتفاق، بالتالي تسعى إلى اتفاق لوقف إطلاق نار بين “حماس” وإسرائيل. بينما أنصار بايدن فيقولون إن وقف إطلاق النار هو باب الحل السلمي.
موقف الإدارة الرسمي
وتقسم إدارة بايدن موقفها تجاه المواجهة بين إسرائيل و”حماس” إلى ثلاث ساحات. الأولى هي ساحة التظاهرات التي أطلقها مواطنون إسرائيليون عرب في القدس ومدن عدة. فبغضّ النظر عن مواضيعها وأسبابها، من خلافات قانونية، وعنف شارعي، ومستوى التعاطي الأمني مع التظاهرات، تعتبر واشنطن أن المسألة داخلية بين حكومة ومواطنيها، وإن دعت إلى الهدوء. الساحة الثانية هي بين القوات الإسرائيلية و”انتفاضة” الضفة وتعتبرها الإدارة قانوناً، اشتباكات بين “سلطات احتلال” وجماعات معارِضة، لكن واشنطن تدعو إلى ضبط هذه المواجهات تحت سقف مفاوضات السلام، وليس بتدخل أميركي. أما الأخطر بنظر البيت الأبيض فهو الصدام العسكري بين “قوات حماس” و”جيش الدفاع الإسرائيلي” وما يخرج عن إطار التظاهر، ولو كان عنيفاً، ليصبح عمليات حربية. بمعنى آخر لا يمكن لإدارة بايدن أن تعتبر مشاهد صواريخ غزة، التي تنفجر داخل إسرائيل، والطيران الإسرائيلي الذي يدكّ دفاعات “حماس”، مجرد مشاغبات وعنف مدني. بل هي حرب حقيقية شاملة، قد تحرق الخريطة إلى كل نواحي إسرائيل وتندلع عبر مختلف الحدود. وعلى هذا الأساس يبرز في واشنطن عاملان أساسيان لتحديد الموقف.
العامل الإيراني
على الرغم من تأثير تيار يساري واسع، بقيادة السناتور بيرني ساندرز وعضوة الكونغرس ألكسندرا أوكازيو كورتيز، على الإدارة ووقوفهم ضد إسرائيل، فالأجهزة الأساسية في الدولة تعتبر أن طهران هي وراء “حماس” في تحويلها الملف من معارضة سياسية مشروعة ضد “ممارسات عنفية” إلى عمليات عسكرية غير مشروعة. بالتالي فإن واشنطن الرسمية بحزبَيها تنظر إلى غزة كقاعدة لإيران، بغضّ النظر عن “القضية الفلسطينية” أو “الصداقة مع إسرائيل”. وتنظر “واشنطن العميقة” إلى ما يجري وكأنه طوق ضربته طهران حول إسرائيل من الجنوب عبر غزة، ومن الشمال عبر لبنان وسوريا. ويعتبر هذا التقييم أن إيران تلعب بدقة ضد إسرائيل لتدميتها إعلامياً وسياسياً، لتطلب “فدية” من بايدن، وهي رفع العقوبات.
العامل العربي
أيضاً من واشنطن، يُنظر إلى الطوق الإيراني بأنه وإن كان يسعى إلى “محاصرة” إسرائيل بالنار، فإن الهدف الثاني هو كسر “معاهدة إبراهيم” عبر ردع الدول العربية الموقِّعة عليها عن التواصل الاقتصادي مع إسرائيل. إذ إن الثقافة الشعبية العربية تتأثر بمشاهد سقوط الفلسطينيين بين قتلى وجرحى في المواجهات مع الإسرائيليين. إلا أن المواجهة العربية- الإيرانية ومشاهد سقوط مئات آلاف العراقيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين، على أيدي “الميليشيات الإيرانية” بات يكوّن ثقلاً أكبر في ميزان المقارنة مع المواجهة بين “حماس” وإسرائيل في غزة. من هنا، لم يعد العامل العربي أحادي البُعد. فأكثرية المجتمعات العربية وإن كانت تكنّ العواطف ذاتها تجاه القدس والفلسطينيين، إلا أنها لا تبدي ذات المشاعر تجاه “حماس” وإيران.
غزة في ميزان واشنطن
إذا جمعنا تلك العوامل وأضفناها إلى عوامل داخلية أميركية، بإمكاننا أن نستشرف ما يلي بالنسبة للموقف الأميركي:
في المعركة بين إسرائيل و”حماس”، تقف واشنطن مع حليفتها ضد مَن تعتبرها إرهابية. ويهم الولايات المتحدة أن تبقى الدول العربية إلى جانبها لتحقيق وقف إطلاق نار ومساعدتها في العودة إلى طاولة المفاوضات.
تخشى واشنطن من أن تخطف إيران “القضية الفلسطينية” وتستعملها في مفاوضات الاتفاق النووي.
أخيراً وليس آخراً، ستحاول واشنطن أن تضغط على إسرائيل لكي تحقق شيئاً ما للفلسطينيين، لتحررهم من “حماس”.
معادلات كثيرة والوقت ليس بطويل.