بقلم: أمينة خيري – صحيفة البيان
الشرق اليوم– خارطة العالم تتغير ببطء، ولكن بكل تأكيد. إنها خارطة العالم الجديد فيما بعد إتاحة اللقاح قدر المستطاع. فعدالة التوزيع في الكوكب أبعد ما تكون عن التفعيل. وقبل نحو شهر ونصف الشهر صدر تقرير مهم عن منظمة الصحة العالمية سلط الضوء على الإجحافات الصحية في إقليم شرق المتوسط، وهو الإقليم الذي تقع فيه غالبية الدول العربية. هذه الإجحافات ليست وليدة عام ونصف العام من عمر الوباء. كما أنها ليست نتاج عقد أو عقدين من الصراعات التي تعصف بدول عدة. إنها إجحافات دامت أزمنة طويلة، وجاءت جائحة «كوفيد 19» لتزيد من عبء انعدام المساواة الثقيل.
خارطة العالم الجديدة لم تعد حرب المياه أو نقص الموارد أو حتى الصراع السياسي، عناصرها الرئيسية. صارت متطلبات الحياة في زمن التعايش مع الوباء قلمها الراسم للحدود وقانونها الموثق لها. صحيح أن الحديث عن بطاقات الهوية وجوازات السفر المرتبطة بتلقي اللقاح حبراً على ورق وتكهنات على الأثير، لكن المؤكد أن شكل العالم وحركة السفر ودوران عجلة الاقتصاد والتجارة والمال والأعمال والتعليم والعمل والصحة والترفيه ستكون مرتبطة بتلقي اللقاح. ليس هذا فقط، بل سيتضح في الأشهر وربما الأسابيع القليلة المقبلة، فترة المناعة المكتسبة من اللقاح. التكهنات تشير إلى فترات المناعة المكتسبة تتراوح بين ستة أشهر وعام. تحديد هذه المدة والكفاءة سيتم معرفته بعد ما تحول كل من تلقى اللقاح إلى تجربة معملية لقياس المدة والكفاءة. وهذه ليست مؤامرة، ولكنها متطلبات طوارئ الجائحة التي لم تسمح برفاهية الوقت والبحث قبل طرح اللقاحات. إنها أخف الأضرار.
وفي كل الأحوال، فإن كل اللقاحات المطروحة حالياً لا تعطي مناعة مدى الحياة. وهذا يعني أن من حصل على اللقاح في بدء طرحه وإتاحته، سيتحتم عليه الخضوع لجرعة جديدة قريباً جداً. وهذا يعني أيضاً، أن مسألة طرح اللقاح كـ«منتج استراتيجي» بلا مقابل من قبل حكومات العالم ستخضع لمراجعات اقتصادية وإعادة تخطيط. فإذا تمكنت دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً من استمرار طرح اللقاح للجميع ضمن نظام التأمين الصحي مثلاً، فإن عشرات وربما مئات الدول الأخرى ستعجز عن ذلك، إن لم يكن اليوم فغداً.
من جهة أخرى، فإن هوية اللقاح ستطرح نفسها عاملاً مهماً في رسم خارطة العالم الجديدة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ستصل دولة ما إلى مرحلة تطعيم شعبها بالكامل، ثم تصدر قراراً بعدم استقبال المسافرين إليها إلا لو كانوا حاصلين على إما اللقاح الذي أنتجه زيداً أو عبيداً. أما ما عداها من لقاحات منتجة من مشارق الأرض أو مغاربها، فلن يعترف بها، حتى لو كانت فعلياً أقوى أثراً وأعمق كفاءة! إنه تحالف السياسة والاقتصاد وترجيح كفة المصالح بدرجاتها المختلفة.
اختلاف خارطة العالم المتعايش مع الوباء يطرح تحديات مختلفة في عالمنا العربي. والجميع بات يعلم أن أحداً لن يكون في مأمن، إلا لو كان كل منا آمناً. إنها قواعد لعبة الوباء التي لا جدال فيها. هي إحدى الألعاب الأممية التي تدفع اللاعبين المصرين على انتهاج قاعدة الاستحواذ في اللعب إلى الانتحار.
الانتحار في زمن الوباء سهل التحقيق، والنجاة أيضاً سهلة التحقيق، لكن الصعب هو الإيمان والتسليم بقواعد اللعبة الجديدة. وإذا كان التفكير في عوائق السفر و«البزنس» والتخطيط لإعادة البناء الاقتصادي وتحقيق التعافي الاجتماعي والنفسي رفاهية قياساً بما يجري في العديد من دول المنطقة العربية، فإنه أيضاً سيكون بعيداً تماماً عن الواقعية للأسباب السالف ذكرها. لن يكون أحد في مأمن إلا لو كان جميعنا آمناً.
الأمن العربي في خارطة العالم الجديدة يتطلب ما هو أكثر بكثير من تسويات وتهدئات سياسية، ومفاوضات وتسويات اقتصادية. كما أنه يتطلب ما هو أكثر استدامة من التبرعات والمنح. ولو لم تحقق المنطقة العربية كلها نجاحاً جماعياً في التلقيح والوقاية والمناعة، فإن المنطقة كلها ستظل في خطر. بل إن قواعد الحظر والمنع والتقييد سيتم تطبيقها عليها دون استثناء، بغض النظر عن النجاحات الوطنية الفردية.
خارطة العالم الجديدة جارٍ رسمها. وعلى المنطقة العربية أن تبقى حاضرة أثناء ترسيم الحدود، وإلا فُرِض عليها الأمر الواقع بعد الترسيم والتوثيق. حسناً فعلت دول مثل الإمارات ومصر والسعودية والبحرين وعمان والمغرب وغيرها حين أسرعت في تأمين حصولها على اللقاح لتأمين وتحصين شعوبها والمقيمين والوافدين. لكننا جميعاً أبعد ما نكون عن مرحلة التأمين الكامل أو حتى الجزئي. فالوباء ما زال سائداً، والتحورات ما زالت حادثة، واللقاحات ما زالت – رغم تعميمها – في المرحلة المعروفة طبياً بـ«مرحلة ما بعد التسويق»، وتتضمن المراقبة الآمنة المستمرة للقاح. بمعنى آخر، منطقتنا العربية تحتاج إلى عمل موحد لتأمين نفسها صحياً واجتماعياً، وبالتالي اقتصادياً ومعيشياً في خارطة العالم الجديدة.