بقلم: فاروق يوسف – النهار العربي
الشرق اليوم- ظهر تنظيم “داعش” في توقيت يناسب رؤية رئيس الوزراء العراقي يومها نوري المالكي لمستقبل الموصل، وهي الرؤية التي تبيّن في ما بعد أنها كانت مستلهمة من رؤية إيرانية لمستقبل العراق.
فبعد أن أدت سياسات المالكي الطائفية في العزل والإقصاء والإذلال في الموصل وسواها من المدن ذات الأغلبية السنّية إلى تبلور فكرة انتفاضة شعبية صار لزاماً أن تجهض تلك الانتفاضة من داخلها. ذلك لأن حرباً أهلية جديدة لم تكن ممكنة في ذلك الوقت (عام 2014). كان المالكي يهيئ نفسه لولاية ثالثة لذلك لم يكن مستعداً لإدارة حرب تكون الميليشيات الشيعية هي الطرف الذي يديرها. كان المطلوب وقوع مأساة كبيرة ذات طابع طائفي داخل المدن المنتفضة التي ستكون مضطرة إلى أن تدفع تكاليفها وحدها.
لم يخترع المالكي تنظيم “داعش”، غير أنه اقتنع بأن يغامر بسمعة القائد العام للقوات المسلحة حين أشرف بنفسه على هزيمة جيش أُعد لكي يُهزم من أجل تحقيق أهداف طائفية. فالرجل هو الأكثر طائفية بين زعماء الأحزاب في العراق الجديد، ناهيك بأنه شعر بأن الخطر الذي سيمثله تنظيم “داعش” “السني” على العراق “الشيعي” سيعلي من مستوى شعبيته التي انخفضت بسبب شبهات الفساد التي صارت تحوم حوله وحول حزب “الدعوة” الذي يتزعمه.
هيأ المالكي القاعدة التي ستكون بمثابة مفاجأة لتنظيم “داعش”. هل كان مطلوباً من شباب الموصل بالذات أن يقاوموا “داعش” من أجل عيني المالكي الذي كانت دولته تمارس إذلالهم يومياً؟
كانت خطة مرسومة بدقة واتقان وخبث. حضر تنظيم “داعش” إلى الموصل باعتباره منقذاً سنّياً في سياق مسرحية هزمت فيها القوات العراقية فصارت الموصل عاصمة لدولة الخلافة الإسلامية التي أعلن ابو بكر البغدادي وهو عراقي من سامراء ولادتها من على منبر الجامع النوري ذي المنارة الحدباء.
نجح المالكي في صنع انتصار سنّي وهمي غير أن ما لم يتوقعه المالكي أن تكون هناك ردود أفعال عنيفة لدى الرأي العام العراقي “الشيعي” تدعو إلى محاكمته بتهمة الخيانة العظمى. وهو ما دفعه يومها إلى الهرب إلى إيران ومن ثم العودة بعد يومين بعد أن حصل على دعم إيراني في مواجهة الأحزاب الشيعية التي شعرت بالخطر بسبب تصريحات بعض غلاة “السنّة” بأن “فتح بغداد” سيكون الخطوة التالية.
السؤال الآن: “لمَ لم تسارع الحكومة العراقية إلى تحرير الأراضي التي وقعت في قبضة “داعش” وظلت تنتظر حتى عام 2017 أي بعد ثلاث سنوات لكي ينظم جيشها إلى تحالف دولي، كان القصد منه محاربة الإرهاب وليس اقتلاع تنظيم داعش؟”.
كان واضحاً بالنسبة الى الولايات المتحدة التي قادت ذلك التحالف أن مسألة “داعش” لا يمكن الخوض فيها بيسر. فتحرير الموصل من قبضة التنظيم الإرهابي لا يعني بأي حال من الأحوال ضمان ولاء سكانها للدولة التي تركتهم عبر ثلاث سنوات ضحية لإرهاب دمر وطنيتهم أو على الأقل شعورهم بالانتماء إلى الدولة العراقية. فحين تخلت الدولة عن مواطنيها حدثت القطيعة الوطنية.
صار “داعش” بالنسبة الى البعض من شباب الموصل المضلل عنواناً للانتماء الوطني لكن بأطر طائفية. وكانت الطائفية هي المزاد الذي يمكن أن يتحقق المرء من خلاله من قوة تأثيرها.
عبر ثلاث سنوات من الهيمنة الكاملة على الموصل ومدن غرب العراق ذات الأغلبية السنّية انضم الكثير من الشباب إلى التنظيم لأسباب يغلب عليها طابع الثأر والانتقام ومحاولة رد الاعتبار. الأمر الذي أدى إلى قيام عملية تفاعل بين الطرفين صبت نتائجها في تقوية التنظيم واكتسابه شرعية ما كان في إمكانه أن ينالها لولا أن الحكومة العراقية ولأسباب طائفية سعت إلى تقديم تفسير مضلل لهزيمة قواتها من خلال اتهام سكان الموصل بالخيانة والتنسيق المسبق مع التنظيم الإرهابي.
كانت النزعة المناهضة لحكومة بغداد قد ترسخت بسبب يأس السكان المحليين من إمكان تراجع تلك الحكومة التي كان يقودها نوري المالكي عن نزعتها الطائفية القائمة على العزل والإقصاء وإنكار حقوق المواطنة وجاء الاتهام بالخيانة الوطنية ليعزز من ذلك اليأس الذي أدى إلى وقوع انفصال كامل في مفهوم الانتماء الوطني.
وإذا ما استرجعنا وقائع الحرب التي جرى من خلالها تحرير الموصل ستصدمنا التفاصيل التي تؤكد أن تلك الحرب لم يكن الهدف منها القضاء على تنظيم “داعش” وحده بل وأيضاً تدمير المدينة ومحوها وبالأخص الجانب التاريخي منها وهو مركزها. كانت الموصل بمثابة المدينة العدو التي خُطط للاستيلاء عليها أرضاً محروقة. وهو ما حصل فعلاً. فبعد أن اختفت نواة التنظيم المكونة من مقاتلي “داعش” الأجانب الذين قدموا من سوريا لم يبق في المدينة غير شبابها وهم الذين تم دفنهم مع عوائلهم وعوائل أخرى تحت الانقاض بسبب القصف العشوائي المكثف الذي لم يكن الهدف منه التقاط الأعداء الحقيقيين.
لقد انطوت تفاصيل حرب تحرير الموصل على جرائم بشعة كانت دوافعها طائفية وليست وطنية وهو ما كشفت عنه بعد ذلك مجموعة ممارسات “الحشد الشعبي” مع سكان المدينة المنكوبة.
ما جرى بعد الحرب يلقي الضوء على مستقبل علاقة الحكومة بالمدينة وسكانها الذين اعتبروا “دواعش” حتى وإن لم ينتموا إلى التنظيم الإرهابي أو يتعاطفوا معه. فلم تقم الحكومة بأي مبادرة لرأب الصدع وإعلان أي نوع من أنواع المصالحة الوطنية، بل العكس هو ما حدث. إذ بقي النازحون في خيامهم ولم تقم الدولة بإزالة الأنقاض وإعمار الجزء المدمر من المدينة. فكان ذلك السلوك العدواني المبيت سبباً رئيساً للعصيان المسلح الذي سيعبر عن وجوده بين حين وآخر من خلال عمليات مسلحة تُنسب إلى “داعش”.
فـ”داعش” ليس سوى واجهة اعلامية لعصيان “سنّي” مسلح تحاول حكومة بغداد التغاضي عنه والتغطية عليه بممثلين من المكون السنّي تابعين لها.