بقلم: عماد بوظو – الحرة
الشرق اليوم- تجري الولايات المتحدة منذ عام 1790 إحصاء سكانيا كل عشر سنوات يقدّم آخر المعلومات عن التركيبة الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية لهذا البلد الكبير والتي تتغير باستمرار لأنه يقوم على المهاجرين ويستقبل لوحده 19.1 في المائة من إجمالي المهاجرين حول العالم، كما أن هذا الإحصاء يحدد عدد سكان كل ولاية وبالتالي مخصصاتها من الحكومة الفدرالية وعدد نوابها في الكونغرس، وعدد أصواتها في المجمع الانتخابي الذي يختار الرئيس، وخرجت قبل أيام بعض النتائج الأولية للإحصاء الأخير والتي أظهرت أن عدد سكان الولايات المتحدة قد ارتفع من 308.8 مليون عام 2010 إلى 331.5 مليون.
ولكن هذه الزيادة كانت متفاوتة بين الولايات فقد حدثت زيادة أكبر في سكان عدة ولايات جمهورية على رأسها تكساس، مما سيؤدي إلى زيادة في ثقلها السياسي وعدد مقاعدها في الكونغرس، مقابل خسارة ولايات ديمقراطية مثل نيويورك وكاليفورنيا عدد مماثل من المقاعد، ولكن من ناحية أخرى فإن نسبة كبيرة من الزيادة السكانية ستحصل بفضل الأقليات وخاصة المهاجرين الجدد من أميركا الوسطى والجنوبية، الذين شكّلوا في العقد الأسبق 48 في المائة من النمو السكاني، والذين من المرجّح أن تصوّت نسبة كبيرة منهم للديمقراطيين.
ولن تصدر النتائج النهائية لهذا الإحصاء حتى شهر سبتمبر المقبل وعندها ستتحدد تفاصيل التركيبة السكانية للولايات المتحدة، والتي لن تقتصر آثارها على السياسة الداخلية بل ستشمل كذلك السياسة الخارجية التي لا ترتبط فقط بالتوجه السياسي للأمريكيين الجدد، بل كذلك بالبلاد التي أتوا منها، وهذا ما يؤكدّه تاريخ الولايات المتحدة نفسه التي كانت نسبة كبيرة من مستوطنيها الأوائل من البريطانيين، وحتى في عام 1980 قال 50 مليون أمريكي أن لهم أصولا إنكليزية وترتّب على هذا التداخل السكاني علاقة خاصة جمعت بين بريطانيا والولايات المتحدة سببها وجود تاريخ مشترك وتداخل في الدين والنظام القانوني وروابط القرابة أو الأجداد المشتركين، وأدى ذلك إلى ظهور مصطلح الأنجلو-أمريكان للإشارة للأمريكيين الناطقين بالإنجليزية كلغة أمّ، والذين كانوا يشكلون 80 في المائة من الأمريكيين عام 2007.
وانعكس ذلك في مختلف مجالات العلاقة بين البلدين، فقد جعل أمريكا أكبر شريك تجاري لبريطانيا بفارق كبير عن ما يليها، وساعد تعاونهما الاقتصادي في جعل لندن ونيويورك أكبر مركزين ماليين في العالم، الأولى أخذت المركز الأول في تعاملات الصرف الأجنبي والإقراض والثانية كانت السوق الأكبر عالميا للسندات والأسهم، ونتيجة هذه التركيبة السكانية المتقاربة خاض البلدان خلال العقود الماضية حروبا مشتركة في أوروبا وكوريا والكويت والعراق ويوغوسلافيا وأفغانستان وليبيا وسوريا، كما أقيم بينهما تعاون استخباراتي وثيق توسّع فيما بعد ليشمل كندا وأستراليا ونيوزيلندا وهي دول الكومنولث المرتبطة بالتاج البريطاني، والتي تتماثل مع الدولتين في تركيبتهما السكانية، وأطلق على هذا التحالف اسم العيون الخمس التي تتعاون كجبهة واحدة لمواجهة التحديات والأخطار الدولية المختلفة.
وبما أنه من الطبيعي أن تنعكس التركيبة السكانية على السياسة الخارجية، فإن نتائج الإحصاء الحالي التي ستصدر في سبتمبر المقبل سيكون لها دور كذلك في رسم السياسة الخارجية الأمريكية، فالمعطيات الأولية تشير إلى أن نسبة الأمريكيين “الهيسبانيك” القادمين من أمريكا الوسطى والجنوبية سترتفع خلال هذا الإحصاء عن النسبة التي كانوا عليها عام 2017 وهي 18.1 في المائة أي ما يعادل 60 مليون إنسان، وسيحدث ذلك في ظل وجود إدارة بايدن الديمقراطية المدعومة بأغلبية نسبية في مجلسي النواب والشيوخ، والتي لم تتمكن من تنفيذ كامل وعودها في موضوع طالبي اللجوء القادمين من الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
لأنه ليس من السهل على أي إدارة أمريكية فتح الحدود وإدخال مئات آلاف اللاجئين مهما كانت ظروفهم الإنسانية صعبة، ولذلك ظهر توجّه في إدارة بايدن لإحياء برنامج يهدف لإنعاش اقتصاديات بعض دول أميركا الوسطى والجنوبية وتأمين حياة كريمة لسكانها في بلادهم بما يقلل من حماسهم للهجرة، وبما أن الإحصائيات الأخيرة قد أظهرت أن نسبة كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين تأتي من ثلاث دول صغيرة في أمريكا الوسطى هي السلفادور وهندوراس وغواتيمالا، فقد تم تركيز المشروع في المرحلة المقبلة على هذه الدول لمساعدتها اقتصاديا بهدف رفع مستوى دخل الفرد فيها.
ورغم أن الولايات المتحدة صاحبة تجارب ناجحة في إعادة إعمار عدة دول في أوروبا بالإضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية، فإن هذا المشروع لن يكون سهلا لأنه طويل الأمد ويتطلب جدية والتزام من الولايات المتحدة كما يتطّلب وجود أنظمة ديمقراطية وشفافية في الدول المقصودة، ولكن في حال نجاحه فإنه سيقدم نموذجا لكيفية تعامل الولايات المتحدة مع دول أخرى في أمريكا الوسطى والجنوبية، مما سيغيّر من طبيعة مكانتها من مجرد حديقة خلفية لأمريكا إلى دول صديقة وحليفة مثل دول أوروبا الغربية.
ومن ناحية أخرى، ازداد خلال السنوات الأخيرة الدور السياسي والثقافي للأمريكيين من أصول أفريقية، والذين بلغ عددهم قبل الإحصاء الأخير 39 مليونا أو 12.6 من السكان، والزيادة المتوقعة في هذا العدد قد يترتب عليها كذلك توثيق للعلاقات مع أفريقيا جنوب الصحراء حيث تعود جذور أغلب الأمريكيين من أصول إفريقية، والجميع يذكر أنه عندما فاز أوباما برئاسة الولايات المتحدة قام بزيارة جدته في كينيا، ورغم أن هذه حالة فردية ولكنها تعطي فكرة عن شعور الكثير من الأمريكيين من أصول إفريقية بالانتماء والتعاطف مع المنطقة التي أتى منها أجدادهم.
ولذلك لابد أن تنعكس هذه التركيبة السكانية عاجلا أو آجلا في توطيد العلاقة مع أفريقيا جنوب الصحراء، ومما يزيد من احتمال ذلك النمو الدراماتيكي للمسيحية هناك حيث يتحول سنويا من 6 إلى 8 ملاين أفريقي للمسيحية حتى أصبحوا يشكلون 62.7 في المائة من سكان أفريقيا جنوب الصحراء، وبحيث شكّل البروتستانت 57.2 في المائة من مسيحيي أفريقيا وهذا تماثل جديد مع أقرانهم الأمريكيين، ومن المتوقع أن يلقى التوجه بتمتين العلاقات الأمريكية مع أفريقيا ترحيبا من السياسيين في كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لأنه سيساعد في مواجهة التغلغل الصيني في أفريقيا الذي يقتصر على البوابة الاقتصادية، بينما سيكون للتواجد الأمريكي أبعاد متعددة اقتصادية واجتماعية وثقافية.
أي أن التغيرات التدريجية التي تحدث سنويا في التركيبة السكانية للولايات المتحدة قد تجعل منها مع الوقت جسرا تتواصل عبره أمريكا الجنوبية والوسطى وأفريقيا جنوب الصحراء وأوروبا وأستراليا، لأنه تجتمع في الولايات المتحدة بالإضافة إلى هذه التركيبة السكانية الفريدة قوة اقتصادية ومالية استثنائية ودور ثقافي رائد، وهذا قد يؤدي إلى بروز كتلة بشرية كبيرة تشمل أجزاء واسعة من العالم ترسم معالم مستقبل مختلف تماما عن عالم اليوم.