بقلم: محمد قواص – سكاي نيوز
الشرق اليوم– شيء من الخفة ينتاب تقييم فرنسا لحيثيات تعطّل تشكيل حكومة في لبنان. وفي الحديث عن بحث في عقوبات فرنسية، وربما أوروبية، ضد مسؤولين لبنانيين، قصور وضيق أفق، وربما على نحو مقصود، في تفسير سلوك ساسة البلد في اتفاقهم وانفضاضهم، بحيث تعتبر باريس أن إرادة من يحكم البلد ذاتية مستقلة تنهل حوافزها من طبائع وحسابات بيتية خالصة.
والحال أن فرنسا ما زالت تعتقد أنها دولة كبرى لها باع تاريخي طويل في راهن لبنان. في الأمر سذاجة وتبسيط، ذلك أن طموحات باريس لم تتكئ على أرض صلبة خلال العقود الأخيرة. لم يعد البلد فرنكوفينيا بالمستوى الذي كان عليه قبل عقود، ولم تملك باريس نفوذا لدى الطبقة السياسية اللبنانية على النحو الذي تملكه دول مثل الولايات المتحدة والسعودية وإيران وحتى النظام في سوريا وربما روسيا حديثاً.
أدرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان، منذ زيارته للبلد بعد يومين من كارثة مرفأ بيروت، ضمن حملة علاقات عامة يودّ استثمارها داخل طموحات الزعامة في بلاده كما طموحات الزعامة في أوروبا والعالم. عوّل الرجل على الاستعراض (لقاءه مع فيروز مثالا)، لعل في ذلك ما يقنع ساسة البلد، كما العواصم ذات النفوذ بفرادة مناورته. بيد أن الواقع أن بارونات لبنان، كما العواصم المنخرطة في شؤونه، لم تأخذ الرجل أو مبادرته يوما على محمل الجد.
استبسط ماكرون معالجة أزمة لبنان. جمع ساسته كما يجمع شيخ الصلح المتخاصمين في إحدى حارات ضيعة بعيدة، موقناً أن محاضراته الأخلاقية بإمكانها أن توقظ لديهم وعيا مفقودا أو ضميرا غائبا. استهان ماكرون أيضاً بتعقد الموقع الجيوستراتيجي للبلد، مستسهلا بلوغ الحل من خلال تواصل مع واشنطن وتخابر مع الرياض وتماس مع طهران.
من أنت يا فرنسا حتى تفتح بيروت أبوابها للفاتحين القادمين من باريس؟ ومن أنت يا ماكرون حتى تسلّم طهران وحزبها في لبنان أمر بلد استغرقت السيطرة عليه عقودا من المال والدم والنار. لم تبدّ واشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب رعاية للهمّة الفرنسية في لبنان، ولا تُبدي واشنطن في عهد الرئيس جو بايدن حالياً اهتماما استثنائيا لرفد ماكرون وموفديه بما يشكل رعاية غربية شاملة وأكيدة لمسعى باريس.
استطاع الاستعصاء اللبناني أن يهزّ صورة ماكرون وفرنسا ويُظهر فشل باريس في تلفيق تسوية سحرية محشوة برومانسية طفولية. أي عبقرية قادت الرئيس الفرنسي وفريقه للترويج لقيام حكومة كفاءات مستقلة تماما عن الطبقة السياسية التي تحكم البلد، بوجوه وعائلات وبيوتات، منذ ما قبل الاستقلال. ثم كيف لدولة كبرى، يفترض أنها تكدس الدراسات والتقارير حول فسيفساء تركيبة لبنان وواقع توازناته وحال المنطقة من بيروت إلى طهران، أن تتشاطر في ترميم صيغة بلد تؤكد جمهورية الولي الفقيه امتلاك كافة مفاتيحه.
ما الذي أتى يفعله وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في لبنان؟ وماذا تعني العناوين التي زارها أو هوية الشخصيات التي التقاها أو اضطر إلى الاجتماع بها؟ ثم ما قصة “كلن يعني كلن” في خطاب باريس ووزيرها واضعا الجميع في سلة التعطيل؟ ثم ما هي طباع “الحرد” الذي مارسه وزير خارجية هذه الدولة الكبرى بحيث غابت تصريحاته ومواقفه على منوال ما يفعل الرسل الدبلوماسيون في مهمات خلفية. ثم أليست باريس من تراجع عن معايير مبادرتها بحيث باتت الحكومة المستقلة وجهة نظر، تنزلق من كونها فوق السياسيين إلى القبول باحتمال خضوعها لرضى السياسيين.
أن تهدد فرنسا، وربما وراءها بعض الأوروبيين، بفرض عقوبات على بعض الساسة، فذلك لن يغير شيئا ولن يتجاوز الأمر حدود الطابع الرمزي الذي لا يرعب بعوضة. وأن تطال العقوبات الموعودة كل الطبقة السياسية، فذلك عمل هواة يوحد تلك الطبقة في الاستمرار في ارتكاب المعاصي مجتمعة متمتعة بغضب سياسي جماعي سيزول حال ظهور تطورات دولية لا دخل لهم بها.
تشارك فرنسا بحيوية في تدبير عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران. مفارقة الأمر أن المفاوضات الحقيقية تجري في فيينا (وربما في عواصم أخرى) بين طهران وواشنطن، فيما بقية دول مجموعة دول الـ 5+1، بما فيها فرنسا، تلعب دور الوسيط. فإذا ما كانت باريس قد اختارت لنفسها أن تكون في موقع “السمسار” في فيينا، فلماذا مطلوب من طهران أن تعتبرها في لبنان عاصمة قرار كبرى يتحتم الخضوع لها.
بدأت المبادرة الفرنسية بصفتها “ثورة” ضد السائد، وانتهت تلك المبادرة بأن أصبحت إنجازا تحاول فرنسا تسوله بالدفع للقبول بتشكيل أي حكومة حتى بالمواصفات السائدة. سقطت باريس في لبنان وقد ترحل عن راهنه إلى غير رجعة. بدا أن موسكو باتت أكثر قبولا وتمتلك هامش أوسع لمخاطبة لبنان وساسته. بدا أيضا أن التسويات التي تدبر، سواء في ما يلي مفاوضات فيينا وانتخابات دمشق وطهران وما قد ينتح عن حوارات بغداد السعودية الإيرانية، قد لا تتيح لفرنسا في لبنان موقعا، أو على الأقل بالقدر الذي كانت باريس تطمح له. ربما حينها قد تكتشف فرنسا ركاكة مستوى “خلية الاليزيه” التي انكبت على ملف لبنان، وهراء “الحرد” الذي مارسته باريس بشخص وزيرها في بيروت.