بقلم: إياد العنبر – الحرة
الشرق اليوم– يشابه التجاور الجغرافي القدر المحتوم على الدول، ويفرض التعامل معه كواقع وليس خيار، وغالباً ما تنحصر العلاقات بين الدول المتجاورة في شكلَين لا ثالث لهما؛ فهي إما أن تكون علاقات تفاعل ايجابي، قائمة على أساس التعاون واحترام الآخر وحسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. أو أنها تتخذ شكل علاقات تصارعية، تقوم على أساس التنافس والتناحر أو التنازع والصراع.
إلا أن وجود أكثر مِن دولة عربية في صدارة تصنيف الدول الهشّة، بات يفرض نمطاً جديداً للتصارع في العلاقات بين الدول المتجاورة في مناطق الشرق الأوسط، إذ تحولت هذه البلدان الهشة إلى ساحة لتصفية الصراعات ولتبادل رسائل القوّة بين الدول المتصارعة على النفوذ الإقليمي، ولا يتخذ شكل الصراع مواجهة مباشرة بين الجيوش العسكرية، بل تنفذ أجندة الصراع عن طريق الوكلاء المحليين على شاكله المليشيات أو المافيات السياسية أو أمراء الطوائف والحروب.
من يتابع أخبار لبنان، يتأكّد بأنَّ الحلول التي حملها (اتفاق الطائف) برعاية خارجية كانت بمثابة ضمان لتهدئة الأوضاع وليس حلاً لأزمة الصراع على الدولة، لأنَّ هدفه الدول الخارجية الراعية للاتفاق كان ضمان تقاسم السلطة بين مَن يقدمون أنفسَهم على أنهم زعماء الطوائف، الذين ابتلعوا الدولةَ واقتصادها وتقاسموا مؤسساتها، وبدلاً من أن يبنوا دولة واقتصاداً يضمن مستوى معاشي لأغلب المواطنين، ونجحوا في التأسيس لاقتصاد المافيات المرتبط بالاوليغارشيات الحزبية. والمفارقة المؤلمة لا يزال الكثير من اللبنانيين يراهنون على أن الحلول تأتي برعاية خارجية، ولذلك هم يتنظرون التدخل الفرنسيّ لحلّ أزمة تشكيل الحكومة!
ورغم الانهيار الاقتصادي والانسداد السياسي في لبنان، إلا أنه يبدو أفضل حالاً مقارنة بما يحدث باليمن! فاليمن تعاني الدمار والفوضى على كافة المستويات، وتواجه عجزاً واضحاً في مواجهة ثالوث الموت: الفقر والمرض والحرب. وتتنظر مبادرات الحلول من الخارج، لأنَّ حربها هي تعبير عن صراعات النفوذ بين السعودية وإيران. وتبقى أرقام الوفيات وتزايد أعداد المجاعة بانتظار أن تلتفت الأطراف الإقليمية لحلّ مشكلة اليمن، لأنَّ الأطراف الداخلية المتصارعة لا تملك قراراً لحسم المعركة فهي بيادق في رقعة الشطرنج، إذ لا تزال اللعبة مفتوحةً بين الدول الإقليمية المتصارعة على النفوذ.
أمّا سوريا، وبعد أن خلَّفت حربها آلاف القتلى ودمار مدنها وتشريد أهلها، لم تعد الدول الإقليمية والقوى الدولية الكبرى التي دخلت على خط الأزمة معنيّة ببقاء نظام الأسد أو زواله! وتحوَّل الموضوعُ إلى كيفية إدارة الفوضى ومناطق النفوذ للقوى الإقليمية والدولية المتداخلة في ملف الصراع السوري. ولذلك فشلت كلُّ مراهنات قوى المعارضة السياسية على تغيير النظام، وأصبحت خارج معادلة حل المعضلة السورية! لم يتعلَّم السوريون من المأزق العراقي، بأنَّ معارضةً برعاية إقليمية لا تسقط نظاماً شمولياً أو دكتاتوريّ، بل تحوّل المعارضين إلى ورقة ضغط ضدّ نظام بلدهم لا أكثر ولا أقل.
وكأنما قدر الجغرافيا المحتوم أراد أن يختبر العراق بجيرانه، فهو مُحاط بين أقطاب إقليمية متصارعة على طوال التاريخ، فالعراق ليس مكاناً يمكن تجاهله أو عزله، بل يمكن فقط التنافس عليه أو التنافس به وهو في الحالتَين كان ولا يزال الخاسر الوحيد. مشكلة العراق في الوقت الراهن ليست في أن جيرانه يتدخلون، بل في أنه عاجز عن أن يؤسس لنفسه هوية تجعله خارج إطار صراع الجيران، بل والأهم من ذلك، أن لا تجعله ساحة لتصفية الحسابات بين هؤلاء الجيران.
وجميع دول الجوار أرادوا استثمار هشاشة الوضع العراقي لتحقيق مكاسب أو لدرء مخاوف، أو لربح نفوذ تفاوضيّ، أو لمجرد البحث عن دَور. وما زالوا يمسكون بأهم خيوط اللعبة العراقية، ولذلك بات التفكير في حلول للمأزق العراقي يستلزم استحضار دور الدول المجاورة.
بلد مثل العراق الذي أثخنت جراحته التدخلاتُ الخارجية، لا يمكن أن يبقى ساحةً لمباريات التنافس والصراع، ولا يمكن أن تفرح الحكومات بدور ساعي البريد بين أميركا وإيران من جهة، وبين إيران والسعودية من جهة أخرى. والتهويل بدور الحكومة بتقريب وجهات النظر بين هذه الأطراف المتصارعة يجب أن يكون بضمانات لمصلحة العراق، وإذا كان هو الخاسر الوحيد في صراعاتهم، فما هي الضمانات بمعالجة مخلفات تدخلاتهم من فوضى وإرهاب ورعاية وحماية الفاسدين!
وعندما تفشل الحكومات في مواجهة قوى اللادولة التي باتت خاصرتها الرخوة التي تنَفذ من خلالها التدخلات الخارجية وتنُفذ أجندتها بكلّ تفاني وإخلاص، عليها أن لا تفكر بأن رعايتها لاجتماعات أطراف الصراع الإقليمي تجعلها قادرة على استعادة دورها كدولة فاعلة وليست تابعة لأيّ مِن أطراف الحوار!
والتعويل على حلّ أزماتنا من خلال الرهان على لقاءات التهدئة العَلَنية أو السريّة بين الدولة صاحبة النفوذ، هو نوع من الأوهام، فهو كمن يريد معالجة مرض السرطان بجرعات البنادول! فالجميع متورطون بدماء شعوبنا ولا اتفاقهم يراعي مصالح دولهم، ولا يأخذ بالحسبان الفوضى التي خلّفتها رعايتهم لقوى اللادولة التي تعيث في الأرض فساداً.
على الرغم من ذلك، ويبدو أن هناك حراك دبلوماسي لحلحلة مشاكل الصراع بين أقطاب التنافس الإقليمي، لا سيما بعد أن أدرك جميع الفرقاء الدوليين المتصارعين أن إدارة بايدن ليست لديها خطط جديدة نحو المنطقة وصراعاتها الفوضوية. فالعيش في ظلّ هذه البيئة المأزومة بصراع المحاور الإقليمية، قد يجعل أي مساعي دبلوماسية يحمل بادرة أمل نحو الاستقرار في البلدان التي تحوّلت إلى ساحة لهذه الصراعات، وعلى أمل أن تخفف من حدة وضراوة وخطر الصراعات التي حوّلت الدول الهشّة في بلدان الشَّرق الأوسط إلى بلدان منكوبة بالموت والدّمار وتسلط الفاسدين.