بقلم: سهى الجندي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- تقوم نظرية الليبرالية الاقتصادية على تقليص دور الحكومة إلى الحفاظ على أمن الدولة وتطبيق القانون، وما عدا ذلك، فهو متروك للقطاع الخاص، على أساس أن آليات السوق يوازن بعضها البعض، وتنشط الحياة الاقتصادية ويشتد التنافس بين التجار حتى يصل إلى اختراعات جديدة وأعلى مستوى من الجودة والسعر التنافسي، وقد نجح هذا الأمر بالفعل في الدول الصناعية. ومع ذلك فهناك شريحة من المجتمع لا تستطيع الإنتاج والتنافس فتتكفل الحكومات بتلبية حاجاتهم من راتب تقاعدي وعلاج وتعليم مجانيين. ومن أين تأتي الحكومة بالأموال التي تكفي؟ بالطبع فهي تجني الأموال من الضرائب المفروضة على الأعمال الاستثمارية، وكلما كانت الأعمال مزدهرة زادت أرباحها وارتفعت ضرائبها وامتلأت خزائنها.
من الناحية النظرية، هذا أمر رائع، ويقضي على الفساد، لأن الحكومة لا تعطي وظائف والمناصب عددها محدود وهو تحت المجهر ويسهل كشف حالات الفساد والتعامل معها بحزم. ولكن لماذا نجحت دول شمال الكرة الأرضية وأخفق الآخرون؟
إذا كانت الطبيعة جادت على هذه الدول بالمياه الغزيرة والتربة الخصبة فإن هناك ما يكفي لسد حاجات الإنسان الأساسية دون وظيفة ولا مساعدات حكومية، وعبر التاريخ، ظلت شعوب أوروبا قبل الثورة الصناعية تعتمد على خيرات الطبيعة، فلا يتطلب الأمر سوى بناء بيت خشبي من الأشجار المحيطة، وإنشاء مزرعة صغيرة للمواشي والطيور وهناك ثروة سمكية هائلة تمكنهم من الصيد في قوارب خشبية. وليس هناك ما يمنع الإنسان من التفكير والإنتاج طالما أنه يحصل على كل حاجاته من بيئته القريبة منه دون عناء، فهل يمكن مقارنة هذا الإنسان مع الإنسان العربي مثلا؟ إذا كانت النرويج وحدها لديها ما يقرب من نصف مليون بحيرة مياه عذبة، فهل تقارن بأيّ دولة من العالم الثالث؟
إن توفر الثروات الطبيعية من الماء والغذاء يمهد الطريق لانطلاق طاقات الإنسان وإبداعه، والإقبال على الحياة بحيث يشعر الإنسان فعلا أنه مميز عن باقي المخلوقات، ويتولد لديه الصفاء الذهني، وقديما كانت تلك الشعوب تتفاخر بالبنية الجسدية والقدرة والتحمل وقال الرومان عن الإغريق عندما هزموهم “دعونا نتولى الجيش ودعوهم ينشغلون بالفن”.
لقد أثرت الطبيعة على الأوروبيين بشكل ملحوظ لا يقبل المناقشة، فحجم أجسادهم أكبر من بقية الشعوب وأعمارهم أطول. فلا عجب أنّ قدراتهم الفكرية تفوقت على سائر الشعوب، ولم يقتصر التفوق على الإنتاج والابتكار، بل تعداه إلى اعتزاز الإنسان بنفسه وعدم اعتبار المسؤول أفضل منه، بل إن المسؤول يخاف من الرعية التي تعتبر نفسها هي التي منحت المنصب للمسؤول وإذا لم يقم بواجبه أو بدر عنه سلوك يدل على الفساد أو استغلال المنصب، فإنها تعزله وتعاقبه، وتحولت إلى دول مدنية وأقصت المؤسسات الدينية نهائيا عن إدارة الدول، بعد أن أدركت ما يفعله رجال الدين والقساوسة وتستر الطبقة الحاكمة بهم.
لكن الإنتاج الضخم والمصانع العملاقة لم تظهر فجأة في الدول المتقدمة، بل لقد سبقها التحرر المجتمعي والثقافي وإرساء الديمقراطية وأسس العمل المؤسسي، وقامت الحكومات بدعم القطاع الصناعي والزراعي بقوة في بداية القرن العشرين حتى أصبح مجديا وفاعلا ويرفد خزينة الدولة بأموال طائلة ومن ثم قامت الحكومات برفع الدعم تدريجيا عن المجتمع مع تخصيص جزء من إيراداتها لدعم العاطلين وكبار السن، لأنها أصبحت في وضع يمكنها من رفع الدعم بفضل الإيرادات الهائلة التي تجنيها من الضرائب على القطاع الخاص.
لو كانت هذه الدول تنفق على شعوبها بسخاء لتمكنت كل أسرة من توظيف خدم وسائقين، ولكن تلك الدول لا تريد الإنفاق إلى درجة الترف بحيث يصبح الفرد كسولا ومعتمدا على الحكومة، بل إنها تحتفظ بالفائض لدفع عجلة التنمية والدبلوماسية الخارجية وغيرها من المشاريع الطموحة بالإضافة إلى الإنفاق على الجيش والحكومة.
بناء على ما سبق، فإن تطبيق الليبرالية الاقتصادية المتمثلة بشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على دول العالم الثالث والدول الأقل نموا مأساة كبرى، فإذا رفعت الحكومات الدعم عن الشعوب فإنها تتركهم لطبيعة جرداء وليس لديها ما تجود به عليهم من ماء وطعام. وهذا الإنسان الذي يعيش في طبيعة جرداء وفصول يغلب عليها ارتفاع درجة الحرارة، ليس لديه ذاك التوقد الموجود لدى الإنسان في الدول الغنية، لذا فهو غير قادر على فرض إرادته، فيتوسل حكومته ويتوسل الإحسان من الناس، فكيف لا تزال حكومات العالم الثالث تقترض من البنك والصندوق الدوليين وتقبل بشروطهما؟ يبدو أنها لا تفكر في شعوبها أبدا وتكتفي بالحصول على مكاسب شخصية وأرصدة في البنوك الخارجية.
ومع ذلك، فقد تمكنت بعض الدول من تحقيق النجاح من خلال تقليد الدول المتقدمة، والتقليد ليس بنقيصة تتهم بها الدول، فالصين تمكنت من الوصول إلى مستوى الولايات المتحدة في الصناعات وما هي بالمخترعة ولا العبقرية، ولكنها تمكنت من فرض القانون واجتثاث الفساد وتحقيق التنمية، كما تعتبر بتسوانا أعظم نجاح في أفريقيا حيث انتقلت من مصاف الدول الفقيرة إلى الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى ومن المتوقع أن تصبح في مصاف الدول الغنية في عام 2036، هذا إذا لم تؤثر جائحة كورونا على خطتها. في المقابل، لا تزال زيمبابوي تعاني من المجاعات المتكررة، وربما يتذكر البعض المقولة الشهيرة لرئيسها الأسبق روبرت موغابي “زيمبابوي لي”. وهكذا تبقى الدول التي لا تستطيع التخلص من الفساد تعاني من المجاعات وغير قادرة حتى على التقليد.