بقلم: أحمد مصطفى – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – من أهم الملاحظات على الديمقراطيات الغربية في العقود الأخيرة، اتساع الهوة بين الجماهير والحكومات نتيجة تراجع الثقة في السياسة عموماً وفي كثير من السياسيين بشكل خاص. يتسق ذلك مع تغيرات قيمية وسلوكية تمر بها البشرية منذ نهاية القرن الماضي، وتميز الأجيال الجديدة، من جيل الألفية (الملينيالز) وصاعداً. بالطبع هناك تباينات واضحة بين الدول ذات النظم الديمقراطية في مدى ثقة الجماهير في «النظام» ومسؤوليه.
يظل النظام في بريطانيا من بين أفضل الأنظمة، على الرغم من تدهوره كثيراً في العقود الثلاثة الأخيرة، في البلدان الديمقراطية. ويرجع ذلك إلى أقدميته وترسّخه بالشكل الذي يجعله يكاد يسير بطريقة «الدفع الذاتي» على الرغم من كل السلبيات.
يبدو ذلك واضحاً في ما تشهده بريطانيا هذه الأيام، وتحديداً منذ شهر مارس/آذار الماضي، بشأن اتهامات لسياسيين (حاليين وسابقين) بالمحسوبية، وربما الفساد. وتتعرض حكومة حزب المحافظين برئاسة بوريس جونسون، لسلسلة من الاتهامات المتتالية بمحاباة رجال الأعمال والقطاع الخاص بشكل قد يكون «غير قانوني»، هذا إضافة إلى اتهام رئيس الوزراء بمخالفة القانون في توفير المال اللازم لتجديد سكنه الحكومي بكلفة أعلى مما هو مخصص له رسمياً.
بدأت الحملة بما كشفته وسائل الإعلام البريطانية عن توسط رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون لشركة «غرينسل» الأسترالية المنهارة لدى وزارة الخزانة، كي تحصل الشركة على دعم مالي ضمن برامج الحكومة البريطانية لدعم الشركات المتضررة من أزمة وباء كورونا. وذلك على الرغم من أن الشركة هي شركة مالية تعد نشاطاتها مستفيدة من أزمة وباء كورونا.
تفجرت أكثر من «فضيحة» إعلامية منذ تولي بوريس جونسون زعامة المحافظين ورئاسة الوزراء خلفاً لتريزا ماي في صيف 2019. ولأنها كانت تطال وزراء في الحكومة، مثل وزيرة الداخلية بريتي باتيل، أو وزير الصحة مات هانكوك أو غيرهما، فقد كان جونسون يدعمهم في وجه ما ينشر. وحتى حين خالف مستشاره الرئيسي السابق دومينيك كمنجز القانون بشأن قيود مكافحة وباء كورونا، دعمه جونسون ورفض إقالته.
وهذا الأخير، الذي طرده جونسون في النهاية، يعتبره البعض مصدر كثير من التسريبات التي تطال رئيس الوزراء في نزاهته القانونية وحتى ذمته المالية الآن. ارتبط كمنجز بجونسون ارتباط ستيف بانون بدونالد ترامب، وقد اضطر ترامب في النهاية للاستغناء عنه حين كان في البيت الأبيض.
فدومينيك كمنجز هو دينامو خداع البريطانيين للتصويت لصالح الخروج من أوروبا في استفتاء 2016، وقضت المحاكم بأن دعاية خسارة النظام الصحي ملايين لصالح أوروبا التي روج لها كانت كذبة مضللة. ومنذ ذلك الحين يعتمد عليه جونسون، حتى قيل إن خلافاً بينه وبين خطيبة جونسون كاري سيموندز كان السبب في تركه منصبه.
ووقتها حفلت وسائل الإعلام البريطانية نهاية العام الماضي بأحاديث عن الصراع للتأثير في رئيس الوزراء بين مستشاره وخطيبته.
على الرغم من أن بوريس جونسون كان ينظر إليه على أنه «ترامب بريطانيا»، فإن النظام في بريطانيا يختلف. وإذا كان ترامب تجاهل حملات الإعلام ضده؛ بل شن حملات مضادة مستخدماً وسائل إعلام موالية وعبر مواقع التواصل، فإن جونسون قد لا تتوفر له تلك الفرصة.
كما أن كذب ترامب كان يصور على أنه أمر يمكن للأمريكيين «التعايش معه»، لكن في بريطانيا ما زال القانون أكثر تشدداً وأيضاً السياسة أكثر تقليدية، على الأقل، مقارنة بالولايات المتحدة.
لذا بدأت المعارضة في بريطانيا «غسل» رئيس الوزراء، والوزراء في البرلمان، وتقدم حزب العمال المعارض بطلب للتحقيق في تمويل تجديد شقة جونسون الحكومية ووافقت لجنة الانتخابات على فتح تحقيق، كما طلبت لجان برلمانية فتح تحقيقات في تولي بعض موظفي الحكومة وظائف في القطاع الخاص في الوقت نفسه، بما يشكل «تعارض مصالح» وشبهة فساد.
لا يتوقع طبعاً أن يستقيل بوريس جونسون، حتى لو أسفرت التحقيقات ولجان تقصي الحقائق عن أي مخالفات. ففي النهاية هناك ضوابط لعملية الضغط السياسي «اللوبي» وحتى إذا تم تجاوز بعض القواعد، فما لم يحدث ضرر كبير، لن يكون القرار كارثياً. ونظام «اللوبي» في بريطانيا يظل أكثر قانونية وضبطاً منه في الولايات المتحدة مثلاً.
لكن المهم أن جونسون والسياسيين في بريطانيا بشكل عام، أكثر حساسية لحملات الإعلام واتهامات المحسوبية والفساد.
صحيح أنه منذ زمن لم يعد السياسي أو الموظف العام الذي يتهم بشبهة فساد ينتحر كما كان الحال في اليابان، أو حتى يستقيل من العمل العام، لكن تظل بريطانيا غير.. على الأقل نسبياً حتى الآن.