بقلم: فاروق يوسف – النهار العربي
الشرق اليوم- “حكومة عراقية معادية للوجود الأميركي لن ترى النور في أي وقت”، ذلك هو القرار الذي يدفع بالأمور إلى أن تأخذ مساراً طبيعياً في العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق. فحكومة غير موالية لإيران هي ضمانة استمرار تلك العلاقة التي يجب أن لا تتعرض للهزات كما حدث في السنوات الأخيرة.
وبما أن الولايات المتحدة بحسب قياداتها العسكرية المشرفة على العمليات في المنطقة قد عقدت العزم على الإبقاء على العدد النوعي القليل من قواتها في العراق التي لن تنسحب بناء على قرار اتخذه مجلس النواب العراقي أو الضغط المباشر الذي تمارسه الميليشيات من خلال القيام بقصف القواعد التي تتواجد فيها تلك القوات، فإن السند القانوني لبقائها يجب أن يظل قائماً. فالقوات الأميركية موجودة في العراق بناء على اتفاق استراتيجي تم توقيعه مع الحكومة العراقية عام 2008 أي في الوقت الذي كان نوري المالكي رئيساً للوزراء قد أنهى جولته الأولى من الحرب الأهلية.
وما دام ذلك الاتفاق قد تم توقيعه مع الحكومة العراقية، فإن القوات الأميركية ستظل موجودة هناك إلى أن تقرر الحكومة عدم الحاجة إليها. وبما أن الأمر مرتبط بقرار حكومي فإن ذلك يمكن مناقشته بتمهل في الجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجي وفق المسؤولين الأميركيين. ولكن الأهم من ذلك ألا ترى الحكومة العراقية، أي حكومة جدوى من مراجعة اتفاق عام 2008، لا لشيء إلا لأن العراق لا يزال مخترقاً من قبل تنظيمات إرهابية، ليس “داعش” إلا تسمية عامة لها أو الإطار العام الذي يجمع بينها.
غير أن إصرار الولايات المتحدة على الإبقاء على قواتها العاملة في العراق يمكن اعتباره مؤشراً لرؤية أميركية جديدة لا للوجود الأميركي في المنطقة وحده، بل وأيضاً لمستقبل العراق في المرحلة التي ستلي توقيع اتفاق نووي جديد مع إيران أو العودة إلى اتفاق عام 2015 بعد أن يجرى تحسينه بما يُهدئ من روع ومخاوف دول المنطقة وفي مقدمها إسرائيل والسعودية.
كانت الاستخبارات الأميركية قد أشاعت غير مرة أن معلوماتها تؤكد أن إيران كانت قد خططت أن يكون العراق ساحة لحربها المقبلة مع الولايات المتحدة. وهو ما يعني أن العراق سيكون عبارة عن منصة صواريخ كبيرة يتم من خلالها استهداف أراضي البلدين الصديقين للولايات المتحدة. العراق وليس سواه من مواقع النفوذ الإيراني هو الأشد خطراً على الأمن والاستقرار في المنطقة. تلك عقدة ينبغي تفكيكها بحذر لكن من غير التغاضي عنها وهو ما يستدعي أن لا تمر محادثات فيينا من غير أن يرافقها استعداد أميركي لمرحلة ما بعد الاتفاق.
إيران في حاجة للعودة إلى الاتفاق النووي بغض النظر عما تبديه من عناد ومن استعراضات على مستوى زيادة تخصيب اليورانيوم. ليست تلك الحاجة بعيدة من العقل السياسي الأميركي الذي يفاوض وتحت نظره ملفات عديدة يقف الملف العراقي في مقدمها لما له من أهمية على مستوى استعادة الولايات المتحدة لثقة حلفائها في المنطقة. فبغض النظر عما ينطوي عليه الاتفاق النووي من تحجيم لقدرة إيران على امتلاك السلاح النووي فإن هناك حاجة ماسة إلى أن تشعر دول المنطقة بالأمان وهو ما لا يمكن تحقيقه من غير الانتهاء من ملفات الميليشيات التابعة لإيران وبالأخص في العراق.
لن يُطلب من إيران طبعاً أن تحد من تدخلها في الشأن العراقي. ذلك طلب ممعن في سذاجته. فإيران لا تتحدث عن أحزاب وميليشيات تابعة لها في العراق بقدر ما تتحدث عن تيار مقاومة إسلامية يقف معها في جبهة واحدة ضد قوى الاستكبار العالمي. لذلك فإن الحوار معها في ذلك الشأن لن يكون ذات جدوى.
تحاول إيران أن تدفع بمسألة نفوذها في المنطقة إلى هامش المفاوضات مع الولايات المتحدة التي لن تتقدم خطوات مهمة على طريق رفع العقوبات عن إيران ما لم تكن متأكدة من سيطرتها على تلك المسألة التي لن يؤثر وجودها في الهامش على قوة تأثيرها على المفاوضات. فإيران ما قبل المفاوضات لن تكون هي نفسها إيران ما بعدها. ذلك هدف أميركي سيُعاد تدويره أثناء المفاوضات بطريقة مواربة. ما سيُعرض أمام إيران هذه المرة لا يشبه ما عُرض عليها عام 2015. فما من إغراءات اميركية، بل سيكون هناك تنازلات إيرانية.
ستكون إيران مضطرة لتقديم تنازلات بعد تجربة العقوبات المريرة التي مرت بها وهي تجربة ستظل تداعياتها قائمة في نواحي الحياة العامة، وأولى تلك التنازلات إنما تتعلق بتحجيم نفوذها في المنطقة وهو الأمر الذي يتطلب منها إعادة النظر في سياساتها العدوانية المستمدة من أطماع استعمارية، ليس لها محل في عصرنا.
غير أن ذلك لن يكون كافياً للسماح للولايات المتحدة بانجاز رؤيتها الجديدة لمستقبل العراق على أرض الواقع. ذلك لأن إيران ستخلف وراءها جيوشاً متناحرة من الميليشيات التي لن تتمكن أي حكومة عراقية من ضبط حركتها وتجريدها من أسلحتها. وقد يكون النشاط الميليشيوي ضد حكومة الكاظمي مقدمة لصراع طويل لن يُحسم لصالح الدولة إلا إذا كانت الرؤية الأميركية شاملة ولا تكتفي بالمبادرة الإيرانية التي لن تكون في كل الأحوال مؤشراً على حسن نية.