بقلم: د. منار الشوربجي – صحيفة البيان
الشرق اليوم- خطاب الرئيس بايدن أمام مجلسي الكونغرس بمناسبة مرور 100 يوم على توليه الرئاسة ينطوي على دلالات مهمة بخصوص أولويات سياسته الخارجية. فتلك الأولويات لا تخرج عما كان قد حدده في الأسابيع الأولى. وأولوياته الخارجية هي أولويات داخلية بامتياز.
وأول ما يلفت الانتباه في الخطاب حجم الوقت الذي أعطاه الرئيس الأمريكي للقضايا الخارجية. فقد استحوذ الداخل الأمريكي على جل الخطاب، ولم تذكر السياسة الخارجية إلا في نطاق محدود بشكل ملحوظ. وبايدن الذي عُرف طوال تاريخه السياسي بأنه يمثل يمين الوسط، كشف عن مشروعات قوانين طموحة تعبر أغلبها عن يسار الوسط.صحيح أن تلك المشروعات لا تقع في خانة التقدمية، إلا أنها أشبه بالخطط الطموحة لرئيسين سابقين. فهي شبيهة بتوجهات فرانكلين روزفلت من زاوية أنها تعيد الاعتبار لدور الإنفاق الحكومي في الاقتصاد، وخلق الوظائف، ودعم القطاعات الأقل حظاً، فضلاً عن رفع الضرائب على الشركات الكبرى التي حققت أرباحاً خيالية من خلال سلسلة قوانين منحتها خفضاً ضريبياً مذهلاً، كان آخرها في عهد ترامب.
وخطط بايدن أشبه بتوجهات الرئيس ليندون جونسون فيما يتعلق بالأقليات. فهو دعا الكونغرس للعمل على إصدار تشريعات تعالج عدم عدالة النظام القضائي الجنائي ومواجهة العنصرية الهيكلية في مجالات التعليم والسكن والتوظيف وحماية الحق في التصويت.
وفي حدود علمي المتواضع كان بايدن أول رئيس منذ ستة عقود على الأقل الذي ينطق صراحة داخل أروقة الكونغرس بتعبير «التفوق الأبيض»، بل أكثر من ذلك فلعله أول رئيس على الإطلاق يصف التيار المعبر عنه بأنه يمثل «تهديداً إرهابياً».
أما المساحة التي خصصها بايدن للسياسة الخارجية فكانت محدودة، ولم تخرج أولوياتها عما كان قد حدده فور توليه الرئاسة، إذ تأتي في مقدمتها المنافسة مع الصين، والتعامل مع روسيا، ثم التهديد النووي ممثلاً في كوريا الشمالية وإيران، فضلاً عن قضيتي الاحتباس الحراري، وتحقيق تفوق أمريكي في مجال التكنولوجيا الجديدة.
فبايدن لم يذكر في خطابه سوى تلك الأولويات ذاتها. وكان ما لم يتناوله أكثر دلالة مما تناوله. فبينما تحدث عن ضرورة استعادة ثقة الحلفاء والعمل الدولي متعدد الأطراف، فإنه لم يفصح عن سياسات محددة تتعلق بإدارة العلاقة مع الحلف الأطلسي أو الاتحاد الأوروبى.
وباستثناء الاتفاق حول برنامج إيران النووي، غاب الشرق الأوسط عن الخطاب، بما في ذلك أية إشارة للوجود الأمريكي في العراق. ورغم أن بايدن أشار لدول أمريكا اللاتينية، فقد كانت إشارة تتعلق بقضية الهجرة، التي هي قضية داخلية لا خارجية. وغابت أفريقيا تماماً عن الخطاب.
وقد ارتبط ما دون ذلك من قضايا خارجية بالداخل الأمريكي بشكل صريح. فالتجارة الدولية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحماية العمال والبيئة. وقد كان لافتاً أن بايدن أعلن صراحة دعمه لحق العمال والمهنيين في إنشاء اتحاداتهم، وهي الاتحادات التي تعرضت لقصف منظم منذ عهد ريغان.
وتشجيع شراء المنتجات الأمريكية مرتبط بسعيه لإنعاش الاقتصاد وخلق الوظائف، والتنافس مع الصين ارتبط بتحذيره من انحسار تفوق بلاده في بحوث التكنولوجيا المتقدمة في مجالات الصحة والإلكترونيات والذكاء الصناعي وغيرها.
والجدير بالإشارة أن بايدن لم يذكر صراحة وجوداً عسكرياً لبلاده سوى في المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة الصين. وبينما حيا بايدن القوات الأمريكية بشكل متكرر، إلا أنه لم يذكر المؤسسة العسكرية إلا من أجل الدعوة لإنشاء هيئة أبحاث تابعة لوزارة الصحة، مماثلة لهيئة الأبحاث المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع، والتي يرجع الفضل لها باختراع الإنترنت.
غير أن السؤال المهم الذي يطرحه خطاب بايدن يتعلق بإعادة الاعتبار لدور وزارة الخارجية الذي تراجع بشكل مطرد لصالح وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات في العقدين الأخيرين. فهل يتجسد على أرض الواقع التوازن الذي جسده الخطاب بين دور الدبلوماسية والقوة العسكرية في صنع السياسة الخارجية الأمريكية؟ وإذا ما تحقق بعض من هذا التوازن، فما معناه بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط؟