بقلم: عبد الاله بلقزيز – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – طوال سنوات الحرب الباردة – وقد امتدّت في الزّمن لِما يزيد على أربعين عاماً – انقسم العالم إلى شرقٍ (اشتراكيّ) وغرب (رأسماليّ) تقودهما الدّولتان العظميان، في ذلك الإبّان؛ الاتّحاد السوفيتيّ والولايات المتّحدة. لم يكن في الإمكان إطلاق العلاقات الدّوليّة، حينها، من عِقال الحَجْز القسريّ لها في قُمقُم ذلك الانقسام والتّقاطب الحادّيْن والمُصَفَّحين بتَحاذُرٍ (حذرٍ متبادل) وتكايُد؛ فالتّوافقُ كان عُمْلةً سياسيّةً نفيسة في سياق حال الاستقطاب، بمقدار ما كانتِ المَخَافةُ كبيرة من أن تُفْلِت الحربُ الباردةُ الجارية من أزِمّة مَن يديرون فصولَها من الكبار فتستعصي على الضّبط.
لذلك عُلِّقت استقامةُ أحوال العلاقات الدّوليّة على زوال حالِ الاستقطاب هذه، وما يتولّد في أكنافها من انقسامٍ وتعسُّرٍ لأيّ توافُق، مثلما رُبِط زوالُها بإنهاء حالة الحرب الباردة بين العظمييْن ومعسكريْهما؛ فما كان يمكن، بالتّالي، تَخيُّل مشهدٍ (سيناريو) آخر للخروج من النّفق المُنْسَدّ غير هذا!
ولقد حصل، فعلاً، ما كان ينتظره قسمٌ كبير من العالم، ويعلّق الأمل على رؤيته واقعًا يتحقّق؛ فانتهت الحربُ الباردةُ، وانتهى معها – إلى حينٍ – الانقسام الدّوليّ. ولكنّ ذلك ما أتى من طريق التّوافق السّياسيّ على نظامٍ دوليّ جديد، وعلى قواعد جديدة له حاكمة، وإنّما هو أتى ثمرة انهيار القطب الثّانيّ في النّظام الدّوليّ المنصرم. وهذا ما وقَع انهيارُهُ بحربٍ مباشرة عليه من خارج، بل انهار من تلقاء نفسه، ونتيجةً لتفاعُل تناقضاته الدّاخليّة العميقة؛ هذه التي عجّل باستفحالها وتفاقُمها العسكرةُ المتزايدة في امتداد سباق التّسلّح بين الدّولتيْن والمعسكريْن. هكذا اختفى الشّرق «الاشتراكيّ» من المعادلة الدّوليّة من دون أن يُحرِز الغرب نجاحاً مقنعاً في بناء نظامٍ دوليّ أكثر توازناً من ذي قبل وقائم على مبادئ التّوافق وتوازُن المصالح وحاكميّة القانون الدّوليّ.
لكنّ الشّرق المنهزم والمختفي، والغرب المنتصر والمسيطر لن يلبثا أن يظهرا في ثوبٍ جديد ما إن تصرَّم القرن العشرون وهَلَّ هلالُ القرن الحالي. سيعود الشّرق إلى عنفوانه من جديد، ولكن لا بما هو منظومة «اشتراكيّة» هذه المرّة، بل بحسبانه شرقَ القوى الاقتصاديّة الكبرى الصّاعدة بنجومها اللامعة: الهند، وكوريا الجنوبيّة، وروسيا، تتوسّطها نجمة العملاق الصّينيّ. ولن يلبث هذا الشّرق الآسيويّ – الذي عوّض الشّرق الأوروبيّ في القطبيّة – أن يصبح مصدر متاعب كبرى للغرب: من جرّاء قدرته التّنافسيّة الهائلة في ميادين الاقتصاد والإنتاج والتّجارة والتّنميّة العلميّة والتّكنولوجيّة.
هكذا انتقل الشّرق، في المخيال الغربيّ، من «خطرٍ أحمر» (شيوعيّ) إلى «خطر أصفر» (آسيويّ). وإذا ما أُضيف إلى متاعب هذا الشّرق الجديد، عند الغرب، التّهديدُ الثّاني الوارد من الشّرق؛ وهو الإرهاب («الإسلاميّ» في الخطاب الغربيّ)، وجولات الضّربات والحروب المتبادلة بين دوله وقواهُ المقاتلة، في عُقر دُورِ الغرب وفي منابعه الخارجيّة، اجتمعتِ الأسباب للاعتقاد أنّ الغرب لم يخرج من فوبيا الشّرق (الشيوعيّ) إلاّ ليدخل في فوبيا شرقٍ جديد.
أمّا الغرب، الذي وحّده الشّرق الشّيوعي وصَنَع منه معسكراً ملتحمًاً موحّداً، فقد دبّ فيه تيار تناقضات المصالح بين مراكزه الكبرى (الولايات المتّحدة و«الاتّحاد الأوروبيّ»)، وبلغت هذه حدوداً من الاحتدام في مسائل عدّة (حروب أمريكا خارج تفويض مجلس الأمن؛ سياسة العقوبات ضدّ روسيا المرتدة على مصالح أوروبا؛ الحرب الاقتصاديّة الأمريكيّة – الصّينيّة؛ الانسحاب الأمريكيّ من الاتّفاق النّوويّ مع إيران؛ السّياسات الأمريكيّة الحمائيّة ضدّ السّلع الأوروبيّة…). أمّا ذروة تلك التّناقضات فأفصحت عن نفسها في الرغبة الأوروبيّة في الاستقلال عن المنظومة الأطلسيّة وتكوين جيشٍ أوروبيّ موحّد لحماية القرار الأوروبيّ المستقلّ من الارتهان بواشنطن. وبكلمة، كسب الغرب معركته مع الشرق (الشّيوعيّ) وخسر وحدته الدّاخليّة.
هكذا، إذن، يعود النّظام الدّوليّ، ومن جديد، إلى الانقسام والاستقطاب بين شرقٍ وغرب وداخل الغرب نفسه، مثلما تُطلّ منه نُذُرُ حربٍ باردةٍ جديدة تجسّدها، اليوم، الحرب الاقتصاديّة الأمريكيّة – الصّينيّة. ومع أنّ وتائر هذه الحرب الاقتصاديّة تسارعت، على نحوٍ مخيف، في عهد إدارة دونالد ترامپ واتّخذت صُوراً من التّصعيد هدّدت بتفجير العلاقات بين الولايات المتّحدة والصّين، وبتفجير النّظام الاقتصاديّ الدّوليّ برمّته، إلاّ أنّ أملاً مّا في وقفها – بعد زوال عهد ترامب – لا يبدو مفتوحاً على الإمكان في الزّمن المنظور؛ ذلك أنّ إدارة بايدن الحالية لا تختلف عن سابقتها في النّظرة إلى الصّين بوصفها خطراً استراتيجيّاً على مصالح أمريكا والغرب، وبالتّالي، في الاستعداد للذّهاب بهذه الحرب الاقتصاديّة والتّجاريّة والتّكنولوجيّة إلى حدودها القصوى. ومعنى ذلك أنّ العالم سيشهد على موجة ثانية من التّناقض والاستقطاب الدّوليّين بين الغرب والشّرق.