بقلم: حسام ميرو – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- منذ قرن من الزمان، كان تصوّر المسار الذي يمكن أن تسلكه الرأسمالية مشروطاً بمعطيات تاريخية مستمدة في جزء كبير منها من إرث وتراث القرن التاسع عشر، خصوصاً الإرث العسكري، وليس مستغرباً ألا تذهب قراءة المفكر وقائد الثورة البلشفية الروسية فلاديمير لينين (1870-1924) إلى أبعد من اعتبار «الإمبريالية أعلى درجات الرأسمالية»، وقد حلّل في كتاب أصدره تحت العنوان ذاته نمو الرأسمالية باتجاه هيمنة الدول الصناعية الكبرى، من خلال توسيع نفوذها الاستعماري، واحتلالها لدول أخرى، لوضع يدها على منابع الطاقة والثروات، ما يجعلها تحوز أكبر سلطة ممكنة في سوق العمل الدولي.
على الرغم من الأزمات الكبرى التي مرّت بها الرأسمالية، بوصفها نظاماً اقتصادياً، إلا أنها تمكنت من متابعة مسيرتها التصاعدية، فبعد أن بدأ العصر الإمبريالي بالتراجع، خصوصاً مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ذهبت الرأسمالية نحو مسار مالي، وهو ما بات يعرف ب«الرأسمالية المالية»، والتي شهدت انتكاسة كبرى في عام 2008، تركت تداعيات كارثية على عدد كبير من الدول والشعوب والشركات، ولا تزال بعض آثارها قائمة لغاية الآن، من دون أن يعني ذلك، حدوث تراجع لهذا الشكل الرأسمالي، بل إن دور هذه الرأسمالية آخذ في التكرّس، بوصفه جزءاً لا يتجزأ من السوق الرأسمالية نفسها، وأساسياً في تكريس نمط آخر من الرأسمالية التي أصبحت أكثر وضوحاً بعد تنامي دور الرقمنة في العالم، وهو نمط الرأسمالية الرقمية، والتي تقوم على صناعة كل ما له علاقة بالعالم الرقمي، من أبحاث وتكنولوجيا وأجهزة وذكاء اصطناعي وخدمات المحتوى وقواعد البيانات.
من الناحية البنيوية، وأيضاً لجانب ديناميات عمله الخاصة، فإن الرأسمال الرقمي يثير العديد من الأسئلة لجهة غياب صفة التنافسية المعهودة في النظام الرأسمالي التقليدي، ولئن كانت التنافسية على الدوام إحدى أهم المحددات الليبرالية للاقتصاد الرأسمالي، فإن هذه الصفة تكاد تكون معدومة، في ظل هيمنة عدد قليل من الشركات العملاقة على السوق الرقمية في العالم (جوجل، أبل، فيسبوك، أمازون، علي بابا)، وغياب هذا المبدأ الليبرالي عن الرأسمال الرقمي، قد يدفع من الناحية النظرية على الأقل إلى استحضار عصر الإقطاع، إذ يبدو أن النمط الذي تتبعه هذه الشركات العملاقة شبيهاً بالسيطرة الإقطاعية، وهو ما يحيلنا بطبيعة الحال إلى استحضار النقيض التاريخي للرأسمالية بوصفها توأم الحداثة، أي العودة إلى ما قبل العقلانية والتنوير والتعاقد الحر.
الصراعات الدائرة اليوم بين عمالقة التكنولوجيا الرقمية، في جزء كبير منها، تدور حول الوصول إلى قواعد بيانات المستهلكين، والتي تبدو أنها أصبحت مستباحة بشكل واسع وغير مسبوق، من دون أية مواجهة تذكر أو مساءلة فعالة من قبل الهيئات الدولية أو المحلية لحماية المستهلكين، حتى إن هذه الهيئات تبدو مع قلة فاعليتها وتضاؤل دورها وكأنها جزء من الماضي، وبالتالي فإن المستهلكين في جميع أنحاء العالم، والذين يفترض أنهم مواطنون في دولهم بالدرجة الأولى، أصبحوا تحت سلطة شركات عابرة للدول والحدود، كما أن الحكومات ذاتها لا تمتلك أدوات فعالة في مواجهة عمليات الاستحواذ الكبرى على قواعد بيانات مواطنيها.
إن نبوءة الكاتب الإنجليزي جورج أورويل في روايته «1984» تبدو اليوم أقرب إلى التحقّق، لكن مع فارق جوهري رئيسي، وهو أن المراقبة وتوجيه الرأي العام والتلاعب بالجماهير لم يعد شأناً حزبياً أو حكومياً، بل أصبح أمراً عالمياً، تقوم به شركات عملاقة، تنتمي شكلياً إلى العالم الليبرالي الحر، لكن صيغة عملها الفعلية تتناقض كلياً مع الطابع الليبرالي للحقوق، فإذا كانت الليبرالية قد تأسست على تأكيد الحقوق الأساسية للفرد، والتي تؤكد بطبيعتها خصوصية الفرد، فإن اختراق هذه الخصوصية ليس أمراً يمسّ المعلومات وحسب، بل يمتد إلى كامل منظومة الحقوق، والأخطر من ذلك هو تحويل الأفراد من مواطنين إلى مجرد قواعد بيانات وزبائن، يتم بيعهم من شركة إلى أخرى.
لم يعرف العالم عبر تاريخه هذا التركيز الهائل للسلطة والقوة في يد قلة قليلة من المنظمات والأفراد، وهي قوة مدعومة برأسمال يفوق في كثير من الأحيان الناتج القومي السنوي لدول صناعية كبرى، فشركة جوجل، على سبيل المثال لا الحصر، تصل قيمتها السوقية إلى أكثر من 1.07 تريليون دولار، بالإضافة إلى قدرتها الهائلة على التحكم في قواعد البيانات العالمية، أكثر من أي دولة في العالم، وهو ما يجعل منها سلطة فائقة بلا حدود جغرافية، أكبر من أي إمبريالية سابقة، ومن هذا المنطق، فإن الرأسمال الرقمي في اللحظة الراهنة هو أعلى شكل عرفته البشرية من أشكال الرأسمالية.