بقلم: نبيل فهمي – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- لا يختلف أحد على أن علاقات الولايات المتحدة مع إسرائيل ظلت لمدة طويلة أقوى علاقاتها مع دول المنطقة، بالرغم من تباين المواقف بين الحين والآخر، مثل الاعتداء على السفينة الأميركية ليبرتي عام 1967، وغضب وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر من عرقلة تل أبيب لجهوده عقد مؤتمر مدريد للسلام أوائل التسعينيات ومضيها في بناء المستوطنات غير المشروعة، مما جعله يعلن أن إسرائيل تعلم رقم هاتفه، وأن عليها استخدامه إذا أرادت مخاطبته بجدّية، كما شهدنا امتعاضة إسرائيلية من توصّل الرئيس باراك أوباما وخمس دول أخرى إلى الاتفاق النووي مع إيران، وهو الاتفاق الذي انسحب منه لاحقاً الرئيس السابق دونالد ترمب.
نجاح إسرائيل في بلورة تلك العلاقات وتوطيدها لم يكن لتبنّيها السياسات الأميركية في الشرق الأوسط في المقام الأول، وإنما يرجع نجاحها إلى توغلها في المنظومة السياسية الداخلية بكفاءة عالية ودهاء مثير للاهتمام، وأولى تلك الخطوات كانت تحفيز الجالية الأميركية اليهودية ومؤيديها عامة مع تركيز خاص على اليمين المسيحي على الانغماس بشكل كامل في المنافسات الانتخابية الأميركية، وعلى مختلف المستويات في مجالس محلية وفيدرالية بالترشح للمناصب المتاحة أو بالإسهام في حملات المرشحين بالجهد والتبرعات، ولم يغفل مؤيدوها عن بذل جهود للتأثير إيجاباً أو سلباً في الانتخابات في ولايات غير معنية كثيراً بالعلاقات الخارجية، بغية تشكيل كتل نيابية تقف وتصوّت وتشرّع لصالح الأهداف والمواقف الإسرائيلية، وأجاد هؤلاء والمسؤولون الإسرائيليون مخاطبة الرأي العام الأميركي، للتأكيد على الحقوق الإسرائيلية وأهميتها للولايات المتحدة، حتى حين لم تتطابق مواقفهما.
ووصل الأمر وبشكل لافت للغاية إلى أن يكون استقبال رؤساء وزراء إسرائيل في الكونغرس الأميركي بحماسة شديدة ويتجاوز حتى الحماسة التي يستقبل بها الرئيس الأميركي ذاته، وبات ذلك مشهداً معتاداً، لم يُستثَر منه الرؤساء الأميركيون إلى أن تولّى نتنياهو منصب رئيس وزراء إسرائيل، لشروعه في تجاوز حتى الحد الأدنى من القواعد البروتوكولية، وهي أن يبلّغ الضيف الأجنبي مضيفه الأميركي بنيّته مخاطبة الكونغرس مجتمعاً.
تجاوز نتنياهو هذه القواعد وأكثر من ذلك بكثير، عندما خاطب الكونغرس في عهد أوباما ليحذّره من سياسات الرئيس الأميركي بخصوص إيران، سعياً لتشجيع الكونغرس على عرقلة جهود سياسات الرئيس وإفشالها، مما أثار أوباما بشدة وخلق جفافاً شديداً بينه ورئيس وزراء إسرائيل، وأتذكّر مقولة مسؤول أميركي لي في العام الأخير لولاية أوباما أن رئيسه غاضب بشدة من عجرفة نتنياهو وتصرفاته، ويعتزم إعطاءه صفعة قبل نهاية ولايته.
هدأت الأمور كثيراً خلال رئاسة دونالد ترمب للولايات المتحدة، لتبنّي السياسات المؤيدة لمواقف اليمين الإسرائيلي، منها الانسحاب من الاتفاقية النووية المبرمة بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا، واتخذ مواقف موالية بشدة لإسرائيل في سياق ما يسمّى بـ”خطة ترمب للسلام الإسرائيلي الفلسطيني”، وتجاهل الحق الفلسطيني، واستثمر نتنياهو ذلك في حملاته الانتخابية المتعددة خلال العامين الماضيين، إلا أنها لم تحسم الأمور في صالحه بشكل ثابت.
لم يطُل شهر العسل بين اليمينين الأميركي والإسرائيلي كثيراً بعد أن فقد ترمب مقعد الرئاسة، وانتخب جو بايدن، نائب أوباما رئيساً للبلاد، الذي أكد مراراً خلال حملته الانتخابية عزمه إعادة أميركا سريعاً إلى الاتفاق النووي، وخلق هذا التطور الانتخابي الأميركي تحالفاً ضمنياً غريباً وصداماً محتملاً، بين اليمين الإسرائيلي واليمين الإيراني واليمين الأميركي، للعمل على إفشال إعادة أحياء الاتفاق النووي.
ومن دراسة التسريبات الأخيرة على لسان وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف التي انتقدت القطاع الأمني والعسكري في بلاده والتي تهدف إلى وضعه في موقف الدفاع عن النفس وتقييد حركته التفاوضية، وهناك أيضاً ردود الفعل السلبية لبعض النواب الأميركيين الجمهوريين وانتقاداتهم لمواقف جون كيري، وزير الخارجية السابق، الذي يتولّى شؤون البيئة في الإدارة الأميركية الحالية، بحجة أنه اتخذ موقفاً سلبياً من إسرائيل في المفاوضات، وأبلغ ظريف بمواقع إيرانية استهدفت عسكرياً من جانب تل أبيب.
أما الصدام المحتمل، فهو ليس بين أميركا وإيران، وإنما بين واشنطن ورئيس وزراء إسرائيل تحديداً، ولأسباب تتجاوز كثيراً القواعد البروتوكولية أو حتى تدخّله غير المشروع في المنظومة السياسية الأميركية، والصدام بالغ الحساسية يتعلق بسياسات إسرائيلية متكررة أو متعمّدة لإفشال الجهود التفاوضية في فيينا حول الاتفاق النووي بالطرق كافة والوسائل المتاحة، بما في ذلك داخل الحدود الإيرانية، مثل اغتيال العلماء أو التعرّض لمفاعل نطنز والهجمات السرية على إيران، سياسات إسرائيلية خشنة لاستدراج طهران إلى رد فعل عسكري يفرض على الولايات المتحدة التدخل العسكري، وهو آخر ما تريده الآن لشعورها بالإرهاق الشديد من تعدد العمليات العسكرية الخارجية خلال العقدين الماضيين، فضلاً عن رغبة الإدارة بالتركيز على الشؤون الداخلية الأميركية إزاء مجتمع منقسم ومتوتر ومهدّد من جائحة كورونا ومتأثر بالتداعيات الاقتصادية لهذا الوباء.
هل يكون تباين المصالح الأمنية الأميركية والإسرائيلية حول إيران حافزاً لمراجعة ومصارحة المؤسسة الأميركية، بعد أن بات واضحاً أن مصالحها ليست بالضرورة متطابقة والمصالح الإسرائيلية على الدوام، بل إن مواقف اليمين الإسرائيلي قد تتعارض صراحة مع المواقف الأميركية، وتصرفاته تعكس عدم اكتراث هذا التيار بالمصالح الأميركية، مراجعة محتملة بعدما تعددت التدخلات الإسرائيلية في المنظومة السياسية الأميركية، وجعلت بعض أعضاء الكونغرس يقترح وضع شروط على المساعدات الأميركية لإسرائيل.
لا أتوقع أن نشهد تغييراً سريعاً في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، لضخامة شبكة الاتصالات السياسية بينهما وتشعّبها، وإنما لا أستبعد أن يجري تقويم جزئي للدعم التلقائي الذي يوفّر لإسرائيل، وأن تكون هناك آذان صاغية لذلك، إذا استمر نتنياهو رئيساً للوزراء، بعدما تجاوز في ممارساته مع السياسيين والعسكريين في آن واحد، وفي ظل تحفّظ غالبية التيارات السياسية الأميركية على الانغماس في عمليات عسكرية جديدة، وعلى وجه الخصوص في الشرق الأوسط، وهو موقف يشمل المنظومة العسكرية والأمنية الأميركية، المرتبطة بقوة بإسرائيل، وإنما الأقل صبراً على تحمّل أي تجاوزات تتعارض مع المصلحة الأمنية الأميركية، وسبق لها أن وقفت ضد إسرائيل بقوة، إلى أن فرضت عليها إلغاء صفقات سلاح إلى الصين تعتمد على التكنولوجيا العسكرية الأميركية.