بقلم: محمد قواص – سكاي نيوز
الشرق اليوم- لن يتوجه الناخبون الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى صناديق الاقتراع في 22 من الشهر الجاري لانتخاب مجلس تشريعي (برلمان السلطة الفلسطينية)، كما أنهم، ووفق نفس المسوغات لن يشاكوا في الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر إجراؤها في 31 يوليو المقبل.
بالمقابل لا أحد أخذ على محمل الجد مسألة انتخاب مجلس وطني فلسطيني جديد (برلمان منظمة التحرير) في 31 أغسطس، ولم تُباشر أي جهة إجراءات تحضيرية للأمر.
“ألغيت” الانتخابات التشريعية. العبارة دقيقة طالما أن الرئيس محمود عباس لم يحدد موعدا جديدا لإجرائها. برر الرجل قراره وقرار “القيادة” (التي دعيت للتداول في الأمر) برفض إسرائيل تصويت الفلسطينيين في القدس الشرقية. ذهب أيضاً إلى تأكيد الطابع الإلغائي للانتخابات من خلال ربطه “قدر” حصولها بموافقة إسرائيلية على السماح بمشاركة المقدسيين بها.
هو كلام حق أطال عباس في عرضه وتفصيل ظروفه ورواية مداولاته. بدا أن عواصم قريبة وبعيدة حملت للرئيس الفلسطيني قرارا إسرائيليا برفض المطلب الفلسطيني، أو على الأقل عدم القدرة على البت فيه بسبب عدم وجود حكومة إسرائيلية. هو كلام حق أريد به رفع “كابوس” الانتخابات. وهو موقف إسرائيلي جاء بمثابة هدية لمن كان يحيك رواية إلغائها.
لا شيء مفاجئا في قرار عباس ولا شيء مفاجئا في قرار إسرائيل. فمنذ صدور مراسيم إجراء الاستحقاقات الانتخابية الثلاث في يناير الماضي، كان حديث الإلغاء أو التأجيل لدى المراقبين والمعنيين يطغى على سيناريوهات إجرائها. بالمقابل فإن إسرائيل التي تعتبر القدس عاصمة موحدة لها اعترفت بها الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب، لم تكن لتتنازل عن هذا المكسب الاستراتيجي النادر، من خلال القبول بإجراء انتخابات فلسطينية في المدينة، بما يمثل اعترفاً بحق الفلسطينيين بالمدينة، ويؤكد عدم سيادة إسرائيل على الجزء الشرقي منها.
وإذا ما صح أن الرئاسة الفلسطينية أصدرت مراسيم الانتخابات وهي عالمة بأن إسرائيل سترفض إجراءها في القدس، فهذا يعني أن المراسيم ولدت وفي ثناياها حجة إلغائها في الوقت المناسب، إذا ما ظهر أن رياح تلك الانتخابات تأتي بما لا تشتهي سفن النظام السياسي لقيادة السلطة ورئيسها.
تقوم الانتخابات التشريعية المفترضة وفق بنود اتفاق أوسلو (1993). ومهمة الانتخابات تجديد مشهد المجلس التشريعي، وهو مؤسسة البرلمان التي أنشأها ذلك الاتفاق. أما القدس كما الحدود واللاجئين والاستيطان فهي قضايا قرر ذلك الاتفاق تأجيلها إلى مرحلة ما يعرف بـ”مفاوضات الحل النهائي”. فإذا ما كانت القدس هي حق تاريخي بالنسبة للفلسطينيين، فهي ليست كذلك وفق اتفاق أوسلو وبناء على موافقة مهندسي الاتفاق (وعلى رأسهم الرئيس الفلسطيني) والموقعين عليه.
منع الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس وبين الضفة الغربية من إجراء الانتخابات منذ تلك الأخيرة عام 2006. ولئن كان السبب حقيقيا وموضوعيا، إلا أنه كان عذرا مريحا لقيادة السلطة في رام الله وقيادة حماس في غزة. بالمقابل سهّل الانقسام قدرة إسرائيل على تقويض اتفاق أوسلو، وجعل “مفاوضات الحل النهائي” سرابا مفقودا، كما عظّم من قدرتها على مد استيطانها وتأكيد نفوذها وسيادة احتلالها على كل مناطق الاتفاق (أ، ب، ج) وهيمنتها الكاملة على تفاصيل الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني والكينونة السياسية الفلسطينية.
أن تمنع قضية القدس إجراء الانتخابات فذلك استخفاف بحقيقة أن المدينة محتلة كما حال مناطق “أوسلو” الثلاث. وإذا ما كانت المدينة في قلب التاريخ الفلسطيني وذاكرته الوجدانية الجمعية وهي عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة، إلا أنها بالمعنى السياسي والقانوني ليست كذلك. فأهل “أوسلو” لم يجعلوها أساسا ولا أولوية في اتفاقهم، بل شأنا من شؤون أخرى جرى تأجيلها إلى مراحل لاحقة.
بالمقابل فإن ما هو أساسي وأولوي هذه الأيام عمليا وواقعيا، هو تجديد وتحديث النظام السياسي الفلسطيني وترشيقه، بما يستبدل الوجوه ويغير من واجهات السلطة وسكان هياكلها، وبما يعيد لحمة وطنية بات فقدانها خبيثا يفتك بالمناعة البيتية ويفاقم من ضعف فلسطين في المناخين الإقليمي والدولي.
يقرر الرئيس محمود عباس تأجيل الانتخابات إلى أن توافق إسرائيل على إجرائها في القدس الشرقية. يسلّم عباس بأن المراسيم الحقيقية لقيام الانتخابات تقررها إسرائيل وليست أي قيادة فلسطينية. يقر أيضا، من خلال قرار إلغاء الانتخابات، أن تهافت الفلسطينيين على التسجيل في قوائم المقترعين، وتهافت 1389 مرشحاً على التنافس ضمن 36 لائحة، ليس ظاهرة وطنية صحية تمثل تحديا للأمر الواقع الإسرائيلي من أجل قيام جسم سياسي فلسطيني (تشريعي ورئاسي ومجلس وطني يشارك به فلسطينيو الشتات).
أهل القدس أدلوا بدلوهم في الأيام الأخيرة في فضاء بوابات المدينة. العالم بأجمعه أخذ علماً، من جديد، بأن في القدس مقدسييها الذين قد لا يحتاجون لمراسيم انتخابات تؤكد هويتهم. يبدد إلغاء الانتخاب أي أمل بإصلاح البيت الفلسطيني وتدعيم مناعته بما قد يحول ذلك الانقسام المؤقت إلى انفصال دائم.