بقلم: د. ماجد السامرائي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- تبدو إعلانات رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي حول حملته ضد الفساد والقبض على بعض المسؤولين مُبهرة للذين يعيشون تحت سقف العملية السياسية ومناصروها.
والأكثر إثارة خبر إلقاء القبض على جمال الكربولي رئيس كتلة الحل في البرلمان، وأحد أقطاب الزعامات السنية الموالية للنظام والعملية السياسية، وله شأن في صناعة رؤساء البرلمان السنة والمناصب الوزارية، خاصة أهم وزارتين “دسمتين” الصناعة والكهرباء.
يتحدث موالون جدد للكاظمي عن فعاليات لجنة مكافحة الإرهاب الجديدة برئاسة أحمد أبورغيف، وأن هناك 25 ملفا في الفساد تهدد الأمن الوطني، أحد أصحابها الكربولي، ستعلن تباعا. لكن الرأي العام العراقي له تفسيرات مختلفة حول “الشو” الجديد وخلفياته الطائفية، ولماذا تم اختيار أحد الزعامات السنية بهذا التوقيت المريب، ولم يتم اختيار زعامات شيعية متورطة بحجم مثير في مسلسل الفساد والسرقة.
أحد الأجوبة المطروحة يرتبط بقرب الانتخابات، على خلفية شغل طهران ووكلائها من قادة الأحزاب الشيعية على صناعة ممثلين للسنة في المرحلة المقبلة يكونون أكثر طواعية للمشروع الإيراني في العراق، بعد حرق بعض الوجوه مثل جمال الكربولي وشقيقه محمد، فمقر الولاية بطهران لا يَغتفِر لهذه العائلة مواقف قناتهم دجلة ومشاكساتها لإيران.
انتقائية الكاظمي، كرئيس للوزراء، في تنفيذ حملة محاربة الفساد تؤكد أنه جزء من مشروع شيعي ولائي يستهدف عملية تسقيط قاسية بين القيادات السنية، تهيئ لاصطفافات وتحالفات جديدة أكثر طواعية لمشروع إيران في العراق، مستغلة تضارب المصالح المالية بين هؤلاء قد تصل خلال الأيام المقبلة إلى مرحلة الاحتراب بوسائل رخيصة، إن لم يتوصلوا إلى الصفقة قد يُطلق من خلالها سراح الكربولي، مثلما تم الإعفاء عن رافع العيساوي وزير المالية الأسبق.
حالة الصدمة والانبهار في الحملة الجديدة يحتاجها الكاظمي، ليغطي على حرجه بعدم وفائه بتعهداته لجمهور ثورة أكتوبر وشعب العراق بأنه سيلقي القبض ويحاكم الجناة قتلة أكثر من 700 شاب وشابة، رغم مرور عام على الجريمة الوحشية، كذلك تراجعه عن وعوده بتعطيل الجموح الجنوني للميليشيات المسلحة بعد ليلة القبض على عصابات إطلاق الكاتيوشا في منطقة الدورة ببغداد، وتطويق مكتبه من قبل كتائب حزب الله.
لا نلوم الكاظمي في سياسته، التي تبدو مُحّسنة عن سلفه عادل عبدالمهدي المتورط بالمسؤولية عن قتل واختفاء المئات من الثوار خلال عام 2019 وبداية عام 2020، حيث يُنتظر مثوله أمام محكمة فرنسية في سبتمبر المقبل، بعد شكوى بعض عوائل المغدورين، كونه يحتفظ بالجنسية الفرنسية إلى جانب العراقية، رغم المنع الدستوري العراقي الذي يفترض مقاضاته حولها. بدلا عن ذلك هنأه الكاظمي على جرائمه وسرقاته وفساده السياسي ومنحه راتبا تقاعديا مجزيا، لتصبح المحاكم الأجنبية أكثر عدلا وإنصافا من القضاء العراقي المهادن للأحزاب الحاكمة.
لا ينفع توجيه اللوم إلى الكاظمي أو لداعمه وزميله رئيس الجمهورية برهم صالح، الذي يثير إعلانه عن نيته إعداد مذكرة قانونية حول استرداد الأموال العراقية المسروقة تندرا كاريكاتوريا. لأن مشروع التصدّي للفساد يتطلب قيادة ثورية شجاعة وحملة وطنية كبرى، بعيدة عن صفقات من هم متورطون بأكثر حلقات الفساد إيذاء للبلد، بعد أن أصبحت أرقام الفساد أسطورية؛ يقول المتابعون إنها تغطي ميزانيات دول الخليج لعام واحد، أو تكفي لتشييد 600 ناطحة سحاب بحجم برج التجارة العالمي بنيويورك.
الكاظمي كرئيس تنفيذي هو جزء من النظام السياسي القائم الذي تجاوز الفساد في ظله حالة إساءة استخدام السلطة للحصول على مزايا شخصية، وفق توصيف منظمة الشفافية الدولية، ليصبح منظومة سياسية توّظف السلطة لممارسة الفساد، وتوظف الفساد لبلوغ السلطة. لقد أصبح عقيدة وأيديولوجية حكم اخترقت النفوس والضمائر المريضة الجائعة لابتلاع مليارات الدولارات من قوت الشعب. التصدّي الحقيقي يتطلب فتح معركة وطنية قاسية ما بين الشعب ومرتكزات هذا النظام، يديرها قائد شجاع في العراق اسمه الحالي رئيس الوزراء.
هذا الملف القاسي وحالة العراق المسروق يعيدان إلى الأذهان قصص وحكايات نماذج عالمية لقادة ورؤساء دول مُلهمين، استطاعوا نقل شعوبهم من واقع التخلف والانقسام الإثني والعرقي إلى مرحلة عالية من التقدم والوحدة والانسجام. نذكر منهما رئيسين لبلدين آسيويين هما مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا، صاحب ملحمة القضاء على زعامات الفساد بعشرة أيام، ورئيس سنغافورة لي كوان يو الذي وصف بأنه دكتاتوري لأنه استخدم الضبط والحسم لمنع التهور الإثني، ورفض إنشاء أحزاب على هذا الأساس ومنع المحاصصة الطائفية، لتصبح سنغافورة في طليعة الدول المتقدمة.
الأرقام والمعلومات حول الفساد في العراق مثيرة للرعب والسخرية؛ 500 مليار دولار حجم الأموال التي هربها نافذون سياسيون إلى خارج العراق، في حين مجموع ما دخل العراق من واردات النفط منذ عام 2003 إلى 2020 بلغ تريليون و87 مليار دولار، خصص منها لقطاع الكهرباء 29 مليار دولار ذهبت لجيوب الفاسدين، بينما يعاني العراقيون من انقطاع للكهرباء يصل إلى 18 ساعة في اليوم، ومن الفقر والجوع والبطالة.
لا تثير العراقي الواعي عدد قوائم إحالة فاسدين إلى القضاء وصفقاتها المشبوهة وسط أجواء المناخ الانتخابي، حتى وإن شملت ثمانية نواب أو وزيرا سابقا أو مدراء عامين، لأن غالبية هؤلاء لا تنتمي إلى صفوف الأحزاب أو إلى فصيل ميليشياوي مسلح. ملفات الفساد الخطيرة معروفة لدى الشارع العراقي لا يجرؤ الكاظمي على اقتحامها.
أمثلة كثيرة يعرفها الشارع العراقي لتمرير فضائح في الصفوف الأولى للطبقة السياسية، بينها مثال وزير التجارة الأسبق عبدالفلاح السوداني، الذي كان مطاردا قضائيا وصدرت بحقه 8 أحكام غيابية بالسجن لتورطه بالفساد في استيراد المواد الغذائية. ألقي القبض عليه من قبل الإنتربول الدولي سُلّم إلى بغداد، وبعد اعتقاله أفرج عنه بقرار عفو عام لأنه من قادة حزب الدعوة.
المثال الثاني ما سمي بفضيحة “أونا أويل”، حيث أجرى موقعا “فبرفاكس ميديا” الأسترالي و”هافنتغون بوست” الأميركي عام 2016 استقصاء كشف عن تورط نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم العالي والبحث العلمي ووزير النفط الأسبق حسين الشهرستاني بفضيحة فساد تتعلق بعقود نفطية بما سمي “جولات التراخيص” نهبت خلالها عشرات المليارات من الدولارات. الشهرستاني ابن شقيقة المرجع الشيعي علي السيستاني وشقيقه متزوج من ابنته.
هل يستطيع الكاظمي فتح ملفات خطيرة كمشروع القناة ببغداد والكهرباء والصناعة والنفط والصحة. وهل يستطيع التصدي بجرأة لملف العقارات المنهوبة ويخرج قادة الأحزاب والميليشيات من المباني والقصور الكثيرة التي استولوا عليها، ومن بينها بيوت مسؤولين في النظام السابق. وما هي الإجراءات التي اتخذها في فضيحة بيع عقارات الدولة بالمزاد الصوري لأشخاص ذوي نفوذ بأثمان بخسة وحجج مشبوهة بعد أن قدرت أثمانها بمئات المليارات من الدولارات. هناك 600 ألف عقار تمتلكها الدولة مستغلة من قبل متنفذين.
هل يستطيع الكاظمي كشف ووقف عمليات تهريب الأموال العراقية إلى لبنان وإيران، التي ما زالت مستمرة بطرق مختلفة سواء بإدخالها كحسابات شخصية للمئات من السياسيين الذين فقدوا أغلب هذه الأموال بسبب أزمة انهيار عملة التومان الإيراني والليرة اللبنانية أو كتحويلات سرّية لحزب الله اللبناني وللميليشيات العراقية المتواجدة في سوريا.
يحاول بعض موالي نظام ولي الفقيه خامنئي في العراق، بينهم مثقفون وإعلاميون، نفي العلاقة الأيديولوجية والسياسية بين هذا النظام وإمبراطورية الفساد في العراق بحجج واهية، لكن الحقائق السياسية تقول غير ذلك، فنظام طهران عزّز مشروعية تسخير مغانم السلطة ضمن معركة البقاء لمنظومة الحكم ببغداد.
رغم ما فعله الفساد المتوحش في العراق، من تهديم منظومة المواطنة العراقية وثلم أجزاء كبيرة من عمرانها، تنبغي المراهنة على حالة عطب كهنوت ولي الفقيه الإيراني وما تتركه من نتائج إيجابية مستقبلية تعّطل مفاعيله بين الأوساط الشيعية في العراق، المتمثلة بثورة أكتوبر 2019 الحيّة المتواصلة، إلى جانب الوعي المتصاعد لبعض المتنورين من الشيعة بحقيقة أن نظام طهران هو السارق الأول لثروات العراق، ووكلاؤه من قادة الأحزاب الموالية هم أدوات لتحصيل عمولات بنسب عالية أو هم يسرقون لحسابهم الخاص.
شعب العراق المسروق ينتظر عودة ما يمتلكه. والسارق مصيره معروف؛ لعنة الفقراء واليتامى والمحرومين وسيف العدالة.