بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم – سيأخذ منك البحث طويلاً، وأنت تحاول أن تستشفّ اللحظة التاريخية التي انقسم فيها الإنسان إلى “إنسانين” اثنين، متشابهين في الملكات والقدرات الفطرية، وفي الأحلام والآمال والسعي لتحقيق الغاية من الوجود في خلافة الله على الأرض، ومتساوين في البنية والخلق، تتجلى فيهما عدالة الله وحسن إبداعه، ولا يفرّق بينهما سوى الرقعة الجغرافية التي قُدرّ لهم أن يرثوها من هذه الأرض الرحيبة، فاتسعت لدى الإنسان الأول (إنسان العالم الغربي)، وضاقت بالثاني (العربي) حتى كادت تخنقه، وتلغي وجوده من مسار التاريخ والحضارة، وهو الذي وضع أساساتها الأولى.
هل سيحتاج الأمر أن نسوق الأمثلة غير المنتهية عن تكريم الله للإنسان، منذ أمرَ ملائكته بالسجود لآدم، وجعله خليفته على الأرض ومنحه حرية إرادته، ورفع من شأنه بتسخير ما في الكون له، وتكريمه بالعقل والأخلاق؟ فكيف تحولّ الإنسان العربي من مخلوق من الدرجة الأولى إلى “مواطن” درجة عاشرة، ضائعٍ في ظلّ أنظمة سياسية همشتّه حتى صار غارقاً في هموم الاستمرار على قيد الحياة، دون القدرة على تحويل أحلامه في البناء والنماء إلى واقع، إلاّ في حالات نادرة وبعد مخاض عسير.
نجحت أنظمة سياسية عدة، وعلى مدى عقود، في تحويل الإنسان العربي إلى “سيزيف” العصر الجديد، “إنسان مقهور مهدور عديم القيمة والحصانة؛ فالهدر يتفاوت ما بين هدر الدم واستباحة حياة الآخر باعتباره لا شيء، ويتسع نطاقه كي يشمل هدر الفكر وطاقات الشباب وحقوق المكانة والمواطنة”، كما يعرّفه الدكتور مصطفى حجازي.
وقد أعادت هذه الأنظمة إنتاج لوياثان من نوع خاص لا يحدّ من سلطته شيء، تتكاثر أذرعه وتمتد وتقوى دون اعتبارٍ لقيمة الإنسان الذي يعيش في ظله، بل على العكس فإنه بشكل عام يسعى للتخلص من كل مواطن يتمتع بعقل مفكرّ أو صاحب ضمير يعمل في إطار مواطنيته، أو يحاول الخروج عن المسلّمات أو الخطوط الحُمر التي وُضعت له، مقابل إعلاء شأن الفاسدين والمصفّقين والمتسلّقين في الأوساط التي تغلب عليها الانتماءات المذهبية الضيقة، في نسخ متجددة الثوب من الهيمنة المغلّفة بالوعود الطوباوية، سواء كانت أشخاصاً أو أيديولوجيات، تخدم أفراداً ولا تخدم دولاً أو مواطنين أو تبني مستقبلاً.
وكان من نتائج تراكم سياسات هذه الأنظمة إيصال الإنسان العربي إلى اليأس والانكفاء على الذات، والرغبة في الهجرة، آملاً بعيش حياة يحقق فيها ذاته بعيداً عن القمع والإقصاء والخوف الذي زرعته هذه الأنظمة فيه، وغذّته حتى شاعت الكراهية وأصبح خيار السلام مُستبعداً، ذلك لأن صناعة “الأعداء” أدّت إلى توجيه معظم الإمكانيات الكبيرة، التي تتمتع بها الدول العربية، نحو خدمة التسلّح والاستعداد الدائم للحرب على حساب بناء الإنسان وتنمية قدراته للنهوض ببلاده. ولطالما تذرّعت الحكومات العربية باعتبارات الأمن والاستقرار، واتخذت منها مبرراً تخفي به خوفها الدائم من مخاطر الحرية، وشماعة تعلق عليها أسباب تأخير عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلدان العربية.
حصل ذلك في الوقت الذي كان فيه إنسان “العالم الآخر” ينمو ويتطور في ظل أنظمة سياسية تقوم على الحرية والعدالة والديمقراطية وسيادة القانون، وعلى أساس السلام الذي هو عماد كل تنمية وهدفها الأخير. وتمكنت البلدان الغربية من صهر مختلف الشرائح المكونة لها في إطار وطني جامع، وأفسحت لها المجال للوجود والعمل بحرية، في حين ما تزال أغلب أنظمتنا تسوّق لشعوبها بأن ذلك الغرب “متوحش” أو “فاسق”، وعلينا مقاومة كل ما ينتجه لأنه يهدد هويتنا! فتُحكم بذلك سيطرتها، وتتمادى في تجاهل بناء الإنسان، كي لا تقتدي بهذا الغرب “الكافر” الذي يكافئ المجدَّ والمخلص في عمله، ويتيح المجال أمامه للإبداع والإنتاج وخدمة بلده وحياته بالمحصلة.
لقد أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2015 وثيقة تتضمن 17 هدفاً كمياً ونوعياً للتنمية المستدامة، ووضعت لها إطاراً يمتد حتى عام 2030، لتحقيق هذه الأهداف التنموية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، والتي شملت ضمان الحياة الصحية وتعزيز الرفاه للجميع، والقضاء على الفقر والجوع، وتوفير التعليم الجيد والمنصف، وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة، واستدامة النمو الاقتصادي، والحفاظ على موارد كوكب الأرض لمصلحة الأجيال الحاضرة والمستقبلية.
ولو تتبعنا مسار حياة المجتمعات العربية منذ بداية القرن الحادي والعشرين، سنجد أنها أبعد ما تكون عن تحقيق هذه الأهداف، بل على العكس فإنها تأخذ اتجاهاً معاكساً. وحتى حين ظنت الشعوب أنها قد “ثارت” على واقعها الرديء المتراكم وانطلقت نحو “ربيع” عمر جديد، لم تلبث أن وجدت نفسها أمام “خريف” مشكلات جديدة، تآكلت فيه سلطة القانون ودور المؤسسات المدنية، فغرقت مجدداً في مستنقعات انعدام الأمان وتفشي الفقر والبطالة وهدر الكرامة والحرية وزيادة التفرقة، وحصلت تدخلات إقليمية ومليشيات إرهابية، وظهرت تنظيمات إسلاموية- سياسية ذات أجندات خبيثة كجبهة النصرة وتنظيم الدولة (داعش) والمليشيات الشيعية في العراق أو لبنان واليمن، أو أنظمة حكم إسلامو – سياسية، فتحطمت الآمال، وتعطلت حركة التاريخ العربي، ودخلت المنطقة في سبات من نوع جديد. وهذا ما كشف عنه فوكوياما في كتابه (أصول النظام السياسي) بقوله: “إن الطريق ما يزال طويلاً أمام الدول العربية لتحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي تجاه الديمقراطية لأنها تفتقر الى عامل المرونة في مواكبة التغيرات واستيعابها”.
كل ذلك كان بالإمكان تجنبّه لو أن الأنظمة السياسية العربية اختارت الالتفات إلى بناء الإنسان والاهتمام بحياته وحريته وتعليمه، واستثمرت فيه ولم تنشغل عنه بالتركيز على بناء الكتل الإسمنتية التي لا تخدم حتى المشاريع الاقتصادية. كان على هذه الأنظمة أن تُدرك أن قيمة “الإنسان قبل البنيان” أي ان التنمية البشرية هي شرط كل تنمية اقتصادية وتكنولوجية، وكان من واجبها أن تعمل على دمج الطاقات الفردية العالية التي يتمتع بها الإنسان العربي واستثمارها بدل أن يصبح أسيراً للقمع والتهميش، فيصبح كما يصفه عبد الرحمن الكواكبي:” خاملاً فاسداً ضائع القصد، حائراً لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته”. يعمل الاستبداد في نفس الإنسان العربي عملَ الأصفاد التي تلازمه، ولو اهترأت وأصابها الصدأ سمّمته وتركته عاجزاً مشلولاً.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال الدعوة لتفعيل الدور الغربي في مساعدة إنسان المنطقة العربية بدل الوقوف كالمتفرج أو غير المكترث، فينبغي على الولايات المتحدة الأميركية والدول الأخرى البدء بتأسيس علاقة مختلفة مع المنطقة، تسهم في إقامة أرضية من الثقة المتبادلة، عوضاً عن إذكاء الشك تجاهها بتصرفاتها البعيدة عن المبادئ التي تفاخر بها، أي حقوق الإنسان وأولويته، وبما تفرضه من عقوبات على عدة دول في المنطقة، تنعكس آثارها على الشعوب زيادة في القهر وإحكاماً في الذلّ والفقر والمرض والخوف، كما هي الحال اليوم في سورية.
تحضرني هنا عبارة الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان قال فيها: “أفضل العقول ليست في الحكومة، فلو كان الأمر كذلك لكانت الشركات قد استقطبتهم للعمل بها”، لذلك فإن المواطن صاحب المصلحة هو الأقدر على المضي ببلاده نحو الأمام ونحو الحضارة فيما لو امتلك الأدوات الكافية وعاش مطمئناً على حريته وصحته ومستقبله ومستقبل أبنائه.
ولكن هل فات الأوان وصار الاتجاه نحو المجهول حتمياً؟ سؤال سيظلّ يدور في أذهاننا ونحن نرقب أغلب أنظمتنا وهي تعيد إنتاج نفسها دون أي تغيير إيجابي يذكر، ولن نستطيع بعد الآن إخفاء الشمس بإصبعنا ومتابعة الادّعاء بأن طريقاً غير السلام يمكن أن ينقذ شعوب المنطقة، فمع كلّ مأزق جديد تعيشه هذه البلاد ستزداد الحاجة أكثر إلى وضع السلاح جانباً والبدء بالنظر إلى الآخر (العدو) نظرة إنسانية، أو أقلّ شك وريبة في أضعف الإيمان، وبمحاولة اكتشاف ما لديه غير الحرب والموت والدمار، فقد أعمى غبار الحروب العيون وطمس الأوجه، حتى نسينا أننا نستحق أن نعيش ونبني وننمو، مثلنا مثل غيرنا ممن ساوانا بهم الله منذ بدء الخليقة.