بقلم: عبد الإله بلقزيز – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – على مدار أزيد من قرن، تدفقت موجات هائلة من المهاجرين الجنوبيين – عرباً وآسيويين وأفارقة وأمريكيين لاتين – من بلدانهم إلى بلدان الغرب الأوروبي والأمريكي بحثاً عن عمل عزّت فرصه في أوطانهم.
أسباب تلك الهجرات المتعاقبة متعددة: حاجة المهاجرين؛ مصالح دولهم في عائدات الهجرة على موازناتها؛ حاجة بلدان الاستقبال إلى القوى العاملة، في مرحلة أولى، وإلى الكفاءات العلمية المهاجرة في مراحل لاحقة…إلخ. ولم يكن القرن الحالي قد هلّ حتى بات عشرات الملايين من المهاجرين مواطنين في بلدان الغرب وجزءاً من نسيجها الاجتماعي: مشاركاً في حياتها العامة؛ السياسية والعلمية والثقافية بعد أن كان ميدان الاقتصاد والإنتاج فضاءه الحصري لعقود مديدة. ولقد حصل ذلك على الرغم من أن فرص الهجرة ضاقت وشحّت، فكادت أن تقتصر على هجرة الكفاءات في العقود الأخيرة، خاصة مع تنامي مشاعر العنصرية ضد المهاجرين.
لم تكن الهجرة وتدفق المهاجرين على بلدان الغرب تطرح مشكلة على هذه البلدان في زمن مضى مسّت فيه الحاجة إليهم. كانوا، حينها، وقوداً للاقتصادات الغربية التي شهدت على اندفاعتها الكبرى بين نهاية الحرب العالمية الثانية وخواتيم عقد السبعينات. ولم يكن الأكثر من الجيلين الأول والثاني من المهاجرين يمثلون أي تحدٍ اجتماعي أو ثقافي أو ديني لمجتمعات الاستقبال؛ فقد كان المهاجرون معزولين – أو شبه معزولين – في أحياء عمل وفي أحياء سكن على أطراف المدن، في ما يقارب أن يكون معازل أو غيتوهات منفصلة عن باقي النسيج السكاني العام. وما كان أكثرهم – إلى ذلك – مجنّساً بجنسيات دول الاستقبال، وإنما يتمتع بوضعية الإقامة القانونية و بالتالي، ما كانوا في تماسٍ مباشر مع المجتمعات التي يقيمون فيها؛ بحيث تتولد من اختلاطهم بها مشكلات ما.
إذا كان الجيلان الثالث والرابع من أبناء المهاجرين وأحفادهم قد اندمجا في مجتمعات الغرب، وتمتعا بالمواطَنة في دولها وخرجا، بالتالي، من حال التهميش التي رزح فيها الآباء والأجداد، فإن الاندماج هذا – الذي بدا حلاً لدول غربية تعاني ضعفاً في البنية الديموغرافية ونقصاً فادحاً في نسبة القوى الشابة فيها- سرعان ما بدأ يتبدى موْطنَ خطرٍ عليها وعلى النظام الاجتماعي ومنظومة القيم، خاصة من قبل البيئات اليمينية والمحافِظة في تلك المجتمعات. وهذا كان في أساس التصاعد المروع للدعوات العنصرية ضد المهاجرين – خاصة من أصول عربية وإسلامية وإفريقية – والمطالَبات بطردهم ووقف الهجرة، ولقد كان التحريض على المهاجرين من عُدّة اشتغال قوى التطرف اليميني العنصري، في بلدان غرب أوروبا مثلاً، ومن أسباب توسّع نفوذها السياسي في البيئات الاجتماعية المحافظة وفي أوساط الشباب العاطل.
إذا تركنا، جانباً، التأثيرات السياسية الإيجابية للمهاجرين في بعض دول الغرب – نظير ما يقع في دول أوروبا الشمالية (وهي تكاد أن تقارب في النتائج تأثيرات المهاجرين السوريين واللبنانيين في بعض دول أمريكا اللاتينية) – فإنّ وجود عشرات الملايين من المهاجرين في بلدان الغرب بات يولّد آثاره الاجتماعية في مجتمعات تلك البلدان؛ ببطء أو بتسارع. لقد جرتِ العادة على الانتباه الحصري إلى تأثير الاندماج وعلاقات الدمج في المهاجرين، ما يستتبعها من قطع لأواصر الصلة بجذورهم ومنابتهم الاجتماعية والثقافية واللسنية، وصهْرهم في منظومات اجتماعية وثقافية مختلفة. ولكن قلما انتبهنا – كما انتبه الغربيون – إلى التأثيرات المعاكسة التي لهؤلاء المهاجرين في مواطنهم الجديدة. والحقيقة التي باتت تخشاها أوساط عديدة في الغرب هي أن يصبح لأثر المهاجرين من مجتمعاته مفعول عميق في الثقافة والقيم، قد يكون من شأنه أن يعدل منها الكثير؛ أي أن يُحدِث في منظوماتها اختراقاً معاكساً يغيّرها من الداخل.
وإذا ما أخذنا في الحسبان حالة الردة الثقافية، التي ترزح فيها المجتمعات الغربية منذ عقود ثلاثة أو يزيد، ويعبّر عنها صعود تيارات اليمين المحافظ والعنصري فيها، والتوسّع الملحوظ للنشاط الكنسي، خاصة في البيئات الإنجيلية المغلقة؛ بل وتزايد التعبير عن الهوية بمفردات دينية؛ معطوفة جميعها على الشعور الجمعي الغربي بأن الغالبية العظمى من المهاجرين – وأبنائهم وأحفادهم – من ديانات أخرى (الإسلام خاصة)…، اجتمعت الأسباب كافة للاعتقاد بأن احتكاكات عديدة بين منظومات القيم في بلدان الغرب ستحدث، لا محالة، وبأن ذلك سيرفع من الهُجاس الغربي من «مخاطر» الهجرة والمهاجرين المنحدرين من منظومة دينية وقيمية مختلفة، ويغذي مشاعر العنصرية وربما الكراهية ضدهم.