صحيفة “النهار العربي”
الشرق اليوم – إعلان الرئيس جو بايدن، بأن المجازر التي تعرض لها الأرمن قبل أكثر من قرن على أيدي قوات الإمبراطورية العثمانية في أيامها الأخيرة ترقى إلى مستوى “الإبادة الجماعية”، يعتبر خطوة غير مسبوقة سوف تكون لها مضاعفات سيئة على العلاقات الأميركية – التركية.
اعتراف بايدن بتعرض الأرمن لإبادة جماعية على أيدي الإمبراطورية التي خرجت منها الجمهورية التركية له أهمية سياسية ورمزية وأخلاقية تتخطى العلاقات الثنائية بين واشنطن وأنقرة ويؤكد أهمية مسألة حقوق الإنسان في سياسة بايدن الخارجية، وهي مسألة تجاهلها كلياً سلفه دونالد ترامب.
الإعلان جعل الولايات المتحدة الدولة الثلاثين التي تعترف بأن الفظائع التي تعرض لها الأرمن من قتل جماعي وخلال عمليات الترحيل القسري والمسيرات في الصحراء والجوع، ترقى بالفعل إلى مستوى الإبادة الجماعية. وحين حدوث هذه المجازر ضد الأرمن، والتي أدت إلى قتل حوالي مليون ونصف مليون ضحية وفقاً لتقديرات معظم المؤرخين، لم يكن هناك كلمة أو عبارة تصف المجازر بدقة.
الكلمة الإنكليزية التي تعني “الإبادة الجماعية” أي Genocide هي مزيج من كلمة geno اليونانية التي تعني العرق أو القبيلة، وكلمة cide اللاتينية التي تعني القتل. هذه الكلمة صاغها محام يهودي بولندي يدعى رافايل ليمكن في 1944 خلال دراسته لحرب الإبادة الجماعية النازية ضد اليهود، والتي أصبحت تعرف بالمحرقة. التعريف القانوني للإبادة الجماعية يعني القتل المنظم والمقصود لفئة من الناس بسبب عرقهم أو الفئة الثقافية التي ينتمون لها بهدف القضاء عليها. ووفقاً لهذا التعريف القانوني، فإن حرب الإبادة التي تعرض لها الأرمن في سنة 1915 هي أول إبادة جماعية تحدث في القرن العشرين، لأن هدف القتل الجماعي كان القضاء على الأرمن كشعب.
وكما أوحت مصادر رسمية منذ أيام، أصدر البيت الابيض بياناً باسم بايدن جاء فيه “أن الشعب الأميركي يكرم جميع الأرمن الذين قتلوا في الإبادة الجماعية التي بدأت في مثل هذا اليوم قبل مئة وستة أعوام”، وتابع البيان دعونا نجدد تصميمنا المشترك لمنع حدوث فظائع مماثلة في المستقبل في أي مكان في العالم، ودعونا نسعى لبلسمة الجراح والوفاق لجميع شعوب العالم”.
وجاء بيان بايدن بعد يوم من إجراء أول اتصال له كرئيس بنظيره التركي رجب طيب أردوغان، لإعلامه بقراره. وكان بايدن قد القى خطاباً في الرابع والعشرين من نيسان (أبريل) 2020 ذكر فيه عبارة “الإبادة الجماعية” للأرمن مضيفاً: “علينا ألا ننسى أبداً أو أن نبقى صامتين بشأن حملة الإبادة المنظمة الرهيبة هذه”. وكانت علاقة بايدن كنائب للرئيس أوباما بالرئيس أردوغان فاترة، ولكنها تأزمت أكثر بعد الاستقبال البارد الذي حظي به بايدن في 2016 حين زار أنقرة لإصلاح العلاقات بعد محاولة الانقلاب. أيضاً علاقات أردوغان الحميمة بكل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الاميركي السابق ترامب، لم تساعد سمعة الرئيس التركي في أوساط الديموقراطيين في واشنطن.
وهكا أصبح بايدن أول رئيس أميركي ينفذ وعده خلال الحملة الانتخابية بالاعتراف بحدوث الإبادة الجماعية للأرمن في بداية الحرب العالمية الأولى. أسلاف بايدن ترددوا في تصنيف المجازر كإبادة جماعية، وان أدانوا ما اسموه “المذبحة” التي تعرض لها الأرمن. بعضهم وعد خلال حملاتهم الانتخابية بتصنيف الفظائع التي تعرض لها الأرمن كإبادة جماعية، ولكنهم عدلوا عن ذلك بعد انتخابهم بسبب معارضة المسؤولين في وزارتي الدفاع والخارجية للحفاظ على العلاقات الاستراتيجية والسياسية مع تركيا بصفتها عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبسبب أهميتها الجغرافية والسياسية التقليدية للسياسة الاميركية في الشرق الأوسط والبلقان. وحده الرئيس رونالد ريغان ذكر عبارة “الإبادة الجماعية” للأرمن في بداية ولايته في إشارة عابرة خلال بيان حول تحرير معسكرات الاعتقال النازية، وليس في بيان رسمي حول إبادة الأرمن. ومنذ بداية ولايته وضع بايدن مسألة حقوق الإنسان في طليعة اهتماماته في السياسة الخارجية.
ويأتي إعلان بايدن بعد سنوات من تدهور العلاقات الأميركية – التركية الثنائية في أعقاب قرارات مثيرة للجدل أو تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة اتخذها الرئيس أردوغان ومن بينها شراء منظومة الصواريخ الدفاعية S-400 من روسيا في انتهاك لمبادئ حلف الناتو، ما أدى إلى فرض عقوبات أميركية ضد تركيا. وفي السنوات الماضية، وخاصة منذ محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا في تموز (يوليو) 2016 ازدادت انتهاكات حقوق الإنسان في تركيا بشكل سافر وطالت عشرات الالاف من الأتراك المدنيين في مختلف القطاعات. وفي هذا السياق، أثارت انتقادات أردوغان القوية للولايات المتحدة لرفضها تسليمه المعارض والداعية الإسلامي فتح الله غولن المقيم في ولاية بنسلفانيا، بتهمة التحريض على الانقلاب، دون أن يوفر أي ادلة، أدت إلى تعميق الخلافات بين أنقرة وواشنطن. كما أدى تدخل تركيا العسكري ضد الاكراد في العراق وسوريا، وتدخلها العسكري المباشر ومن خلال المرتزقة في الحرب الليبية، إلى اثارة استياء كبير في الكونغرس والمجتمع الاميركيين من هذه السياسات التركية.
وفي سنة 2019 صوت مجلسا الكونغرس على قرار يعترف بالإبادة الجماعية للأرمن على أيدي سلطات الامبراطورية العثمانية. وفي الشهر الماضي، بعث 38 عضواً في مجلس الشيوخ من الحزبين برسالة الى الرئيس بايدن جاء فيها: “نحن نقف بشدة ضد أي محاولات تدعي بأن الجهود المنظمة والمتعمدة لتدمير الشعب الأرمني هي أي شيء آخر غير إبادة جماعية”. وحضوه على الاعتراف بهذه الحقيقة. وفور صدور بيان بايدن، سارع المشرعون الأميركيون إلى الثناء عليه.
الرأي السائد في أوساط المحللين في واشنطن هو أن الرئيس اردوغان الذي يواجه تحديات اقتصادية وسياسية داخلية سيتردد في اتخاذ اجراءات عقابية جذرية يمكن أن تقوض أكثر العلاقات المتوترة أصلاً مع الولايات المتحدة. يمكن لأردوغان أن يفرض، كما فعل في السابق القيود على استخدام سلاح الجو الأميركي لقاعدة أنجرليك الجوية في شرق تركيا التي يستخدمها حلف الناتو، في عملياته في الشرق الأوسط، مثل هذا الإجراء قد يؤثر بعض الشيء على العمليات الأميركية، ولكن واشنطن لها حق استخدام قواعد جوية عديدة في شرق المتوسط وفي منطقة الخليج. أيضاً يمكن أن يحاول أردوغان خلق عقبات أمام استخدام السفن الحربية الأميركية لمضيقي البوسفور والدردنيل للوصول إلى البحر الأسود، وخاصة لمساعدة أوكرانيا خلال أزمتها الحالية مع روسيا، ولكن هناك اتفاقية دولية تمنع تركيا من اتخاذ مثل هذه الإجراءات الأحادية الجانب . أيضاً خيارات أردوغان بتعزيز العلاقات أكثر مع دول مثل روسيا أو إيران ليست جذابة، لأن أردوغان لا يريد أن يوفر لنقاده في الداخل الحجج بأنه يضع تركيا تحت المظلة الروسية، ولأن ايران لا تستطيع ان تساعده كثيراً. الأوضاع الاقتصادية المتردية في تركيا والتي زعزعت الليرة التركية، تجعل من خيارات أردوغان العقابية ضد الولايات المتحدة محدودة، ويمكن القول إن بعض نقاّد أردوغان في الداخل سوف يذّكرونه بأن قراراته الاستفزازية السابقة، مثل شراء الصواريخ الروسية، قد ساهمت في التعجيل وفي تبرير قرار بايدن التاريخي الاعتراف بحقيقة الإبادة الجماعية للأرمن.