بقلم: جمعة بوكليب – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – لا أعرفُ لماذا يُصرُّ كثيرون على تكرار مقولة تَحثُّ على ضرورة التعلّم من دروس التاريخ وعِبره. ذلك أن نظرة واحدة إلى ما يحدث في أفغانستان، حديثاً وقديماً، تؤكد أن بعضاً من قادة وزعماء العالم، كأنهم اتفقوا ضمنيّاً على عدم حاجتهم إلى التوقف قليلاً، والالتفات إلى الوراء، بغرض الاطلاع على تجارب من سبقوهم. وربما لذلك السبب، لا يتورعون عن خوض غمار السير في طرق يعرفون مسبقاً أنها محفوفة بالمخاطر، وتمتلئ بالعلامات المحذرة، الداعية إلى ضرورة التفكير والتروّي قبل التسرع باتخاذ قرار بالسير فيها.
إذ قبل أن تحطّ القوات الأميركية، في تلك البقاع الأفغانية الصعبة، بجنودها المدججين بأرقى ما أنتجته المصانع العسكرية الحديثة من أسلحة وعتاد عام 2001 كان نظراؤهم السوفيات قد سبقوهم إليها عام 1978، وخاضوا في أوحال أوديتها، وصخور جبالها، طيلة عشر سنوات مديدة. لكنهم أُجبروا على مغادرتها، مهزومين مدحورين، وبخسائر بشرية وعسكرية مكلفة، سرّعت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في انهيار النظام الاشتراكي في موسكو.
بعد انقضاء عشرين عاماً، وخسائر مالية تقدّر بـ2.3 تريليون دولار، وآلاف القتلى والجرحى، وصلت الإدارة الأميركية، متأخرة كثيراً، إلى قناعة مفادها أن امتلاك ساعات العالم لا يعني امتلاك الوقت. الوقتُ، منذ سنوات في أفغانستان، في قبضة أيادي «طالبان». واتضح لها، أخيراً، أنّ حربها في أفغانستان، بوهم تحقيق نصر حاسم ونهائي على الحركة لا يختلف كثيراً عن أوهام «دون كيشوت» في حروبه. وبالتالي، لم يعد أمامها سوى المسارعة بسحب ما تبقّى من قوات على وجه السرعة، وترك البلاد مفتوحة أمام احتمالات عديدة، ليس من بينها، وللأسف، احتمال يتيم بإمكانية توقف الحروب، واستتباب الهدوء والأمن، وعودة السلام والاستقرار. واتضح، من دون الخوض في جدال، أن محاولات زرع بذور الديمقراطية الغربية في صخور جبال أفغانستان قد انتهت إلى طريق مسدود ومتوقَّع. وتبيّن لواشنطن، كما تبيّن قبلها لموسكو، أن تحديث أفغانستان، وجرّها، بقوة السلاح، إلى الانضمام إلى رَكْب الحداثة والعصرنة ليس سوى أضغاث أحلام. وانتهوا مثلهم مثل مَنْ يقود حصاناً جامحاً إلى جدول ماء، من دون استطاعة على إجباره على الشرب. وليس على واشنطن سوى القبول بأن مقاليد الأمور، بعد خروج قواتها في الموعد الجديد المضروب، سوف تنتقل، عقب وقت قصير، إلى أيادي «طالبان»، وبوضعية مشابهة إلى ما حدث في منتصف السبعينات من القرن الماضي في فيتنام، وبفارق واحد، وهو أن رفع الأقلام في كابل لن يعجّل بتجفيف حِبر الصحف، لاختلاف خصوصية الصراع في أفغانستان عن نظيره الفيتنامي، رغم ما يطفو على السطح من تشابه. الخروج من أفغانستان لن يكون مقتصراً على 3500 عسكري أميركي. إذ أعلنت بريطانيا من جانبها مؤخراً، أنها ستسحب جنودها المتمركزين هناك، والبالغ عددهم 750 عسكرياً، بالإضافة إلى 7000 عسكري ينتمون إلى بلدان أعضاء في حلف الناتو.
حين قررت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن غزو أفغانستان، كان بيع مشروع الغزو للمواطنين الأميركيين، وقتئذ، سهلاً، بسبب ما لحقهم من إرهاب «القاعدة» في 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وبالتالي، كان دافع الانتقام لضحاياهم بمثابة ترخيص شعبي مُنح للبيت الأبيض للقضاء على من كانوا وراء الحادثة الإرهابية، أينما كانوا وحلّوا. والذين منّا كانوا شهوداً، على تلك الفترة الزمنية، وتابعوا مع غيرهم في مختلف مناطق العالم تطورات الحدث، أولاً بأول، على شاشات التلفاز، لربما يتذكرون مشاهد أسراب قاذفات القنابل الأميركية الضخمة، في عملية أُطلق عليها اسم (الصدمة والرهبة Shock and Owe) وهي تدكُّ معاقل «القاعدة» الحصينة في جبال تورا بورا وفي وغيرها من المناطق الأفغانية. وحين، أخيراً، دخلت القوات الأميركية والقوات الحليفة مدينة كابل، كانت قيادات حركة «طالبان» وكوادرها المقاتلة قد تلاشت مختفية، وذابت كفصّ ملح في كوب ماء. وساد، وقتذاك، اعتقاد بأن حركة «طالبان» قد انتهت نهائياً. والمحصلة النهائية للحملة ضد كابل عام 2001، وفيما بعد الحملة ضد بغداد عام 2003 أن إيران كانت الرابح الأول. القوات الأميركية والقوات الحليفة قامت نيابةً عنها، ومن دون مقابل، بتخليصها من عدوين لدودين. أولهما كان في كابل عام 2001 ممثلاً في نظام سياسي إسلامي سلفي. والآخر في بغداد عام 2003 ممثلاً في نظام قومي عروبي. الرابح الثاني كان تنظيم «داعش».
الخروج المتوقع للقوات الأميركية والقوات الحليفة من أفغانستان قريباً، سيؤدي إلى فتح الأبواب أمام صراع داخلي بين أطراف ثلاثة: حركة «طالبان» وهي الطرف الأقوى، والأرجح، وتليها قوات حكومة كابل، ثم قوات «داعش».
في عام 2001 لم يكن «داعش» ضمن أطراف المعادلة الأفغانية على الأرض. وفي عام 2021، بعد انسحاب أميركا، سيكون يقيناً طرفاً يُحسب له الطالبانيون ألف حساب. هناك أيضاً أسئلة تتعلق بردود فعل جيران أفغانستان، باكستان وإيران، حول الانسحاب العسكري الأميركي، واحتمال عودة «طالبان»، بعد حسم الحرب، إلى الإمساك بمقاليد الأمور في كابل.