الرئيسية / مقالات رأي / من جدار برلين إلى جدار كييف

من جدار برلين إلى جدار كييف

بقلم: مصطفى فحص – الحرة

الشرق اليوم- سقط جدار برلين، لكن العداء لم يسقط. استخدم المنتصر في الحرب الباردة لغة جديدة، لكنه لم يتجاوز موقفه العقائدي. تقبل الطرف المهزوم على مضض إعادة التموضع الجيوسياسي على الخارطة الأوروبية، لكنه لم يتقبل الهزيمة وانتظر اللحظة التي يستطيع فيها استعادة موقعه، لكن في ذروة اندفاعته اصطدم بتغيرات جذرية. فأوروبا التي يريدها كما كانت قبل الهزيمة تحولت. وبرغم محاولات استنهاض الجغرافيا والمصالح، تحول هجومه من التوسع إلى الدفاع، بهدف الاحتفاظ بما تحول.

عندما رفعت واشنطن بطاقة صفراء تحذيرية، اكتشف الكرملين أن ما أنجزه من مخططاته التوسعية أو خارطة اندفاعاته لم يتجاوز مناطق من شرق أوكرانيا. والمعضلة أنه إذا قرر الاكتفاء بها يكون قد عزل نفسه بنفسه، وأقرّ ببناء جدار افتراضي جديد بينه وبين أوروبا يبعد آلاف الكيلومترات عن مكان الجدار السابق. وإذا قدر أن عباءته الجيوسياسية قادرة على ضم مزيد من الأراضي، فانه سينزلق حتما نحو المواجهة، مواجهة لا يمكنه أن يحدد مكانها أو حدودها في البداية، ومن المستحيل أن يعرف كيف وأين ستنتهي.

لم تعد أوكرانيا حديقة خلفية تاريخية للكرميلن. فمنذ 2014 يعيش البلدان حالة حرب، نجحت موسكو في اقتطاع أراض كبيرة من أوكرانيا ضمت جزءا منها إلى حدودها السياسية، وأقامت في مناطق أخرى حكما ذاتيا، وجعلتها بؤر توتر لم تعد تهدد استقرار أوكرانيا لوحدها بل استقرار القارة العجوز التي عادت إلى الانقسام. وفي هذا الصدد يقول الباحث في معهد كارنيغي للسلام في موسكو مكسيم ساموروكوف: “مرة أخرى، يبدو أن القارة تنقسم إلى معسكرين منقسمين بشدة، لا يعارض أي من الطرفين ظهور حدود واضحة بينهما، بل إنهما متفقان بشكل أو بآخر على المكان الذي يجب أن تكون عليه تلك الحدود: هناك فقط التفاصيل الدقيقة التي يجب تجزئتها”.

ما لم يدركه الكرملين أن خطوط التماس في الحرب الباردة الجديدة انتقلت إلى حدوده، وأن استعراض القوة الذي يجريه على الحدود مع أوكرانيا، حتى وإن قام بغزوها، وهو أمر مستبعد حاليا، ليس إلا حماية لحدوده، ومحاولة يائسة لفك الحصار الإستراتيجي عن روسيا، والحفاظ على هيبة موسكو التي تتلقى العقوبات كما تتلقاها أي دولة تصفها واشنطن بالمارقة وتعمل على تأديب نظامها، لكيّ تُجبره على تحسين سلوكه، والتوقف عن إزعاج جيرانه، والتخلي عن طموحاته غير المشروعة.

بعيدا عن احتمالات حرب وشيكة، لا يبدو أن هناك أملا في التوصل إلى حل وسط بين روسيا وأوكرانيا، أو بين روسيا وأوروبا، أو بين روسيا وأميركا، والمأزق الأوكراني الأوروبي الأميركي أنهم ليسوا بوارد تدخل مباشر يمكن أن يدفع موسكو إلى التراجع عن التصعيد، وهذا ما دفع الكرملين إلى التلويح عسكريا بأنه قادر على فرض شروطه على الأطراف كافة.

لذلك لا تستبعد الإدارة الأميركية تدخلا روسيا واسع النطاق في أوكرانيا، لكن الأخطر بالنسبة لكييف أن واشنطن ومعها الناتو غير قادرين على الوقوف بوجه هذا التدخل أو منعه. فمن الواضح أن الغرب غير مستعد لمواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع روسيا في أوكرانيا، لذلك من المحتمل أن ينقسم الموقف الغربي إلى معسكرين، أميركي بريطاني يدعو لرفع مستوى التعاون ما بين أوكرانيا والناتو، وفرنسي ألماني يرفض هذا الطرح ويدعو إلى ممارسة مزيد من العقلانية مع موسكو لضمان تعقل بوتين.

الرهان الفرنسي الألماني على عقلانية بوتين عززه خطاب الأخير أمام المجلس الفدرالي، حيث دعا بوتين الدول الغربية إلى التعايش السلمي، وهو ما كان سائدا بين الطرفين خلال الحرب الباردة، حينما التزم كل طرف بحدوده الجيوسياسية وفصل بينهما جدار برلين، لكن من المستحيل أن يلتزم بوتين المُستَفز من إقتراب أعدائه التاريخيين إلى حدوده السياسية، حيث حدود نفوذه الطبيعي مع أوكرانيا، وهو عاجلا أو آجلا سيقوم بتوسعتها بهدف توسعة حدود الجدار الأوكراني، الذي سيشكل هذه المرة خط الدفاع الأخير عن الجدار الأحمر المحيط بالكرملين.  

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …