بقلم: ديفيد بروكس – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – ما هو الشيء الأميركي النموذجي؟ إنه الإيمان بشيء غيبي. فالمستوطنون الأوروبيون الأوائل تركوا الحياة المريحة في بلدانهم القديمة وهاجروا إلى ظروف قاسية وصعبة، مقتنعين بأن المستقبل سيكون أحسن على هذه القارة.
وعبر المهاجرون جميعهم المحيطات أو البراري إلى مكان لا يعرفونه، على أمل أن يتنفس أبناؤهم يوماً ما هواءَ الرخاء والحرية. وها نحن مرة أخرى إزاء إحدى تلك اللحظات التي نقوم فيها بقفزة، بمخاطرة، تشجّع عليها رؤيةٌ لإمكانية جديدة.
وما الأيام الأولى لإدارة الرئيس جو بايدن سوى قفزة جريئة في الحقيقة. طلبتُ من «أنيتا دان»، وهي واحدة من كبار مستشاري الرئيس بايدن، تأمل المقترحات العملاقة الثلاثة: الإغاثة من تأثيرات كوفيد-19، والبنية التحتية، والخطة المقبلة المتعلقة بـ«الأسرة». أي رؤية تربط هذه المقترحات معاً؟ وما هذا الشيء الذي بات يعرف بتوجهات بايدن الاقتصادية؟ فأشارت إلى الصين. فهذا قد يكون القرن الصيني، نظراً لدينامية الصينيين وتقهقرنا. ذلك أن المزاوجة غير المتوقعة بين الرأسمالية الخالصة وتوجيه الدولة للاقتصاد تجعل من الصين النموذج المهيمن حول العالم. وتقول «دان» إن بايدن يؤمن بأنه يتعين على الديمقراطية أن تذكّر العالم بأنها تستطيع أيضاً حل المشكلات الكبيرة. ويتعين على الديمقراطية أن تنهض وتُظهِر أننا ما زلنا نمثّل المستقبل. ثم سألتُ سيسيليا راوز، رئيسة «مجلس المستشارين الاقتصاديين» التابع لبايدن: أي تكمن نقاط ضعفنا؟ فكان جوابها: إنها في خدماتنا العامة، إنها تدهور حياتنا المشتركة.
وقالت لي راوز: «إن نموذج الأربعين عاماً الماضية كان يتمثل في الاعتماد على القطاع الخاص من أجل حمل العبء، لكن ذاك القطاع ليس الأنسب لتوفير بعض الخدمات العامة مثل تدريب اليد العاملة والاستثمار في البنية التحتية»، مضيفةً: «هذه مجالات يوجد فيها إخفاق للسوق، وهو ما يخلق دوراً للحكومة». ومن جانبه، يقول بريان ديز، مدير «المجلس الاقتصادي الوطني» التابع لبايدن، إن توجهات بايدن الاقتصادية تقوم على ثلاث ركائز: جهد لتوزيع المال على الأشخاص الذين على الطرف الأكثر انخفاضاً من سلّم المداخيل، وجهد لاستغلال تغير المناخ كفرصة لإعادة اختراع نظامي الطاقة والنقل في بلدنا، وجهد لتكرار لحظة النجاح والإنجاز التي عشناها خلال إرسال بعثة إلى القمر عبر الاستثمار بشكل كبير في البحث والتطوير.
بعض الناس يقولون إن هذا يشبه «الصفقة الجديدة» (المشاريع والبرامج الضخمة التي تبناها الرئيس فرانكلين روزفيلت في الثلاثينيات)، ولكني أرى أنه بالأحرى أشبه بنسخة عملاقة حديثة من «النظام الأميركي»، أي استثمارات القرن التاسع عشر في التعليم والبنية التحتية التي شجّع عليها ألكسندر هاميلتون، ودافع عنها هنري كلاي، ودعمها جمهوريون أوائل مثل أبراهام لينكولن. كان ذلك مشروعاً وطنياً بامتياز، أنجزه بلد فتي، بواسطة حكومة نشطة لتأمين هدفين عظيمين: الدينامية الاقتصادية والوحدة الوطنية. إن توجهات بايدن الاقتصادية عبارة عن جهد ضخم هدفه تعزيز الدينامية الاقتصادية، وهو لا ينحصر في الإنفاق على البحث والتطوير ومسائل الطاقة الخضراء فحسب، وإنما يشمل أيضاً الاستثمار الضخم في الأطفال ورأس المال البشري.
وإذا شملت «خطةُ الأسرة الأميركية» التي يقترحها بايدن التعليمَ العام لمرحلة ما قبل الروضة و«كلية مجتمعية» مجانية، كما هو متوقع، فإن ذلك سيعني أربع سنوات إضافية من التعليم المجاني لملايين الأميركيين الشباب. وهذا إنجاز كبير جداً لم نحقق شيئاً مثله منذ زمن بعيد، مثلما قال لي عمدة شيكاغو السابق رام إيمانويل («الديمقراطي»). كما أنه أجندة موحِّدة أيضاً. فخلال العقود القليلة الماضية، كان الاقتصاد يحوّل المال إلى الأشخاص المتعلمين تعليماً عالياً والذين يعيشون في المناطق الحضرية الكبرى، وهذا الأمر خلق شرخاً طبقياً كارثياً يقسّم البلاد ويغذّي الاستقطاب.
أما إجراءات بايدن، فمن شأنها تحويل المال إلى ثلثي الأميركيين تقريباً غير الحاصلين على الشهادة الجامعية. وشخصياً، أجدُ أنه من المثير للاهتمام أن يروّج الديمقراطيون، وهم حزب الطبقة المتعلمة الحضرية، لسياسات من شأنها إرسال مليارات الدولارات إلى.. ناخبي ترامب. ونظراً لأن خطة بايدن متأثرة بهاميلتون أكثر مما هي متأثرة بالاشتراكية، فإن التقدميين ليسوا الوحيدين الذين أُعجبوا بها وإنما المعتدلون أيضاً. لكن، هل ينطوي الأمر على مخاطرة؟ أجل، مخاطرة كبيرة في الواقع.
وإذا كانت ذاكرتك التاريخية تعود إلى عام 2009 فقط، فربما تعتقد أنه ليس هناك خطر في تبني خطة طموحة يترتب عليها إنفاق كبير ودين ضخم. لكن التاريخ حافل بقصص الأمم والإمبراطوريات التي انهارت واندثرت جزئياً لأنها استدانت بشكل أكبر مما ينبغي: إسبانيا الإمبريالية، وفرنسا القرن الـ18، والصين القرن الـ19. لكن بالمقابل، كانت لدينا 20 عاماً من النمو الضعيف وفترة طويلة من الإنتاجية الضعيفة. وخطوط الاتجاه الحالية لا يمكنها أن تستمر. فهذه مخاطر ضرورية ومعقولة وينبغي أخذها حتى لا يكون الهلاك مصير أميركا. ثم انظر إلى المدن مثل فريزنو في ولاية كاليفورنيا، وجرينفيل في ولاية كرولاينا الجنوبية.. التي عادت إلى الحياة في السنوات الأخيرة. فما الذي فعلته هذه المدن؟ لقد استثمرت في البنية التحتية والكليات المجتمعية.
وخطة بايدن هي في الحقيقة عبارة عن أشياء سبق أن أثبتت نجاحها محلياً، لكنها ستطبّق على نطاق ضخم هذه المرة. أحياناً، يخاطر المرء من أجل التقدم إلى الأمام. ولهذا، فلئن كان الصينيون مقتنعين بأنهم يملكون المستقبل، فإن الأمر يستحق المحاولة لإثبات أنهم مخطئون.