الرئيسية / مقالات رأي / مستقبل العراق في ظل السلاح المتفلّت..

مستقبل العراق في ظل السلاح المتفلّت..

بقلم: فاروق يوسف – النهار العربي

الشرق اليوم– في سبعينات القرن الماضي قررت الحكومة العراقية جمع السلاح الشخصي. خلال أسبوع واحد كان لها ما أرادت. لم يعد هنالك سلاح غير سلاح الدولة. وفي الوقت الذي كان العراقيون ينامون وأبواب بيوتهم مفتوحة اختفت ظاهرة الثأر الشخصي والعشائري، ولولا العنف الذي كانت أجهزة الأمن تمارسه خفية ضد المعارضين السياسيين لكان العراق قد اعتبر واحداً من الدول النادرة الخالية من الجريمة.

كانت هناك دولة بغض النظر عن مستوى القمع الذي كانت تمارسه.

اليوم لم يعد هناك شيء مما كان يملكه العراق. لقد صار العراقيون يحنون إلى الدولة التي كانت تقمعهم. لو كانت تلك الدولة موجودة لما انتهت أحوالهم إلى ما هي عليه الآن من فوضى. يقول لك أحدهم: “ليست المشكلة في السلاح، بل في الأمان” كما لو أن الشيئين غير مرتبطين بعضهما ببعض. العراق ليس بلداً آمناً. تلك نتيجة مؤسفة لثماني عشرة سنة من “الديموقراطية”.

عام 2003 كان العراقيون على موعد مع الحرية. حرية هي مزيج من مشروع أميركي بارد ومزاج عراقي ساخن. كانت هناك أجندة غامضة لم يفهم العراقيون من فقراتها شيئاً في حين ظلت أبجديات العيش تتراجع وسط فوضى أعادتهم إلى زمن ما قبل الدولة التي كرهوها بعد أن أثقل عليهم وجودها. ومن يتذكر تلك الأيام لا بد أن تبرز أمام عينيه أسواق السلاح التي انتشرت في المدن العراقية قبل أن تحل محلها أسواق المخدرات. كان السلاح يومها البضاعة الأرخص ثمناً بحيث لا يساوي ثمن قطعة السلاح كلفة المادة التي صنعت منها.

كان ذلك التحول نوعاً من الحرية الميسّرة في بلد خُطط له أن يمضي إلى الهاوية من دون رجاء في عودة أهله إلى الحياة السوية.

حدث ذلك قبل أن تظهر الميليشيات باعتبارها بديلاً مستورداً عن الجيش العراقي الذي سارع الحاكم المدني الأميركي بول بريمير إلى حلّه في خطوة انتقامية مهدت لإلغاء قانون التجنيد الإلزامي الذي بدأ العمل به عام 1935.

لم يعد هناك جيش. لن يكون هناك جيش. وبهذا يكون السلاح الهائل الذي كدسه نظام صدام حسين عبر سنوات حروبه فائضاً عن الحاجة. تلك هي النظرية التي اعتمدتها سلطة الاحتلال حين سمحت للرعاع بنهب مخازن الجيش العراقي. وكان سلاح الجيش الشعبي وفدائيي صدام قد تسلل إلى البيوت باعتباره سلاحاً شخصياً قبل انهيار النظام الحاكم بوقت قصير انطلاقاً من تصور النظام أن العراقيين سيدافعون عن أنفسهم في مواجهة قوات الاحتلال. وهو تصور لم يكن في محله إلا في حدود ضيقة.

لم تكن إيران في حاجة إلى تزويد ميليشياتها العاملة في العراق بالسلاح. كان لدى تلك الميليشيات فائض من السلاح يمكن أن يغطي حاجة جيوش جرارة. لذلك لم يكن مفاجئاً أن تلجأ العشائر إلى استعمال الأسلحة الثقيلة في معارك بعضها ضد بعضها الآخر التي غالباً ما تنشب لأسباب مضحكة، غير أن الاستقواء بالسلاح في ظل تدهور نظام التعليم قد يسّر القيام باستعراضات القوة لمَن يرغب في القيام بذلك.

وليس من باب الفكاهة أن يُقال إن الدولة تخلت عن دورها القمعي المسموح به قانونياً من أجل فرض هيبتها لتمارس دور الوسيط بين العشائر من أجل وقف نزيف الدم والإضرار بالممتلكات الشخصية. وقائع مؤلمة مستلهمة من مسرح اللامعقول. لقد أصدر رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي قانوناً للعشائر ضمن من خلاله حرية امتلاك السلاح، بل واستعماله. كان المالكي يوزع بنفسه السلاح على رؤساء العشائر.

اليوم لا تجد الدولة أنها قادرة على التحكم بالسلاح الذي سمحت بانفلاته منذ سنوات تحت مظلة القانون. ولكن الصورة ستبدو أشد قتامة لو عرفنا أن سلاح “الحشد الشعبي” وهو مؤسسة عسكرية رسمية لم يكن بعيداً من الاستعمال الشخصي في المنازعات الفردية والجماعية على حد سواء. ذلك يضع الدولة على عتبة تزويد خصومها بالسلاح الذي يتعارض مع هيبتها، بل ويقيد قدرتها على الحركة بما يضمن لها تطبيق القوانين على الجميع.

أما حين يهدد سلاح الميليشيات في شكل صريح سلطة القانون من خلال استعراضات، الهدف منها الإعلان عن استقلالية السلاح المتفلّت، فإن الحكومة التي يُفترض أنها تمثل الدولة، إذ تلوذ بالصمت في مواجهة تلك التهديدات إنما تعلن عن ضعف حيلتها، وهو ما يضعها أمام واحدة من أهم علامات انهيار الدولة التي باتت حاضنة لعناصر موتها.

لا تشبه الدعوة الحالية إلى حصر السلاح بيد الدولة ما حدث في سبعينات القرن الماضي. فـ”دولة اليوم” لا تعرف أين يقع سلاحها ومَن يستعمله ولأي هدف. “الحشد الشعبي” الذي هو جزء من الدولة لا يمانع في وضع سلاحه في خدمة الأفراد والعشائر في معارك جانبية لا تملك الدولة سوى أن تكون فيها وسيطاً محايداً. أما مَن قتل مَن؟ فإن ذلك سؤال يُترك للاعراف العشائرية التي أعاد إليها نوري المالكي الاعتبار في سياق قانون خاص.

لذلك فإن التمييز بين السلاح المتفلّت والسلاح المنضبط مسألة غاية في التعقيد بالنسبة إلى دولة، كانت مخازن أسلحة جيشها ولا تزال مفتوحة لميليشيات تعددت مصالحها، غير أن مرجعيتها كلها تقع في إيران.

تلك صورة لا تُظهر حاضر الدولة العراقية وحده، بل تمتد إلى المستقبل.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …