بقلم: خليل حسين – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- ستحتفل الولايات المتحدة الأمريكية بخروجها من أفغانستان بعد عقدين من الزمن على أغرب عملية نفذت في تاريخ الحروب الحديثة والمعاصرة، فهي حرب انطلقت ضد تنظيم «القاعدة» الموجود عنوة في أرض تجمّع فيها عشرات الآلاف من الإرهابيين من مختلف أصقاع العالم، والذي تسبب بتغيير معالم النظام الدولي، وأجبر العالم بقيادة واشنطن على مواجهة وضعت أسساً لمعالم نظام عالمي عنوانه مكافحة الإرهاب الذي خصص له البيئة القانونية والمالية والعسكرية والأمنية غير المسبوقة.
تمكن الحلف الدولي من هزيمة «القاعدة» وقتل زعيمها، لكن المصيبة ما أنتجته لاحقاً من تنظيمات أشد إرهاباً كتنظيم «داعش» وأخواته. لقد كلفت هذه الحرب العالمية مئات آلاف الضحايا ومئات مليارات الدولارات، وتداعيات حروب متصلة في غير مكان من العالم كاحتلال العراق وغيرها من العمليات على مساحة العالم بأكمله. لكنها تبقى الأشد أثراً في الولايات المتحدة مادياً وبشرياً لخُمس قرن من الاستنزاف. لكن السؤال الذي يُطرح ماذا بعد الانسحاب الأمريكي؟
التداعيات الأولى ستصيب أفغانستان نفسها، أو بالأحرى ما تبقى منها، ففي أقل تقدير لن تتمكن السلطة القائمة من احتواء ما يحيط بالبلاد من ظروف لا طاقة لها على تحمل أعبائها، مادياً وأمنياً. إضافة إلى حالة تنظيم «طالبان» الذي ينتظر هذا الانسحاب لينفذ ما عجز عنه سابقاً، وهو يتهيأ عملياً لذلك بعد مظاهر الفشل التي تسود محادثات إسطنبول حول مستقبل الوضع الأفغاني بعد الانسحاب.
ثمة مؤشرات كثيرة مبنية على سوابق عدة في هذا المجال، من بينها على سبيل المثال لا الحصر الصور المأساوية التي انتشرت في العراق بعد الانسحاب الأمريكي في عام 2009؛ حيث الاقتتال الداخلي والفوضى العارمة التي وقع فيها العراق ومن ثم انتشار تنظيم «داعش» وتمدده إلى سوريا وغيرها. وما يعزز تلك الصور ما يختزنه المجتمع الأفغاني والتنظيمات المسيطرة هناك من بيئات تعتبر من شرائعها واختصاصاتها عبر العقود.
ربما المفارقة الأغرب في هذا المجال التصريحات الأمريكية حول الانسحاب وأسبابه المعلنة وهو مواجهة الصين، وفي المبدأ أمر واضح ولا يحتاج إلى الكثير من التصريح أو التلميح، ويبقى نص الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي التي أطلقها الرئيس جو بايدن، إشارات واضحة وحثيثة على مواجهة الصين، وهو هدف ليس بجديد، وإنما معروف ومسند إلى وثائق أمريكية دامغة، وثمة من يعيد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان بعد تفجير البرجين، إلى أن هذا الاحتلال هو الأساس لقطع الصين عن تمدد نفوذها في آسيا وأوروبا لاحقاً على ما سُميّ بخط الحرير، وتأتي هذه المفارقة الأمريكية لتعلن سبب الانسحاب من أفغانستان هو التفرغ لمواجهة الصين.
حرب الولايات المتحدة في أفغانستان كلفتها أكثر من 2500 قتيل وأكثر من عشرين ألف جريح، عدا عن المصابين نفسياً وحالات الانتحار والتفكك المجتمعي، وإلى ما يربو على 1000 مليار دولار من الخسائر المادية المباشرة، عدا عن تلك غير المباشرة؛ النتيجة سحق «القاعدة»، لكن تفريخ المزيد من التنظيمات الإرهابية، وبقاء السلطة في أفغانستان هائمة على وجهها في مواجهة صخور تورا بورا. وهي مهيأة اليوم وبكل وضوح للدخول في حرب أهلية ستقضي تماماً على أي مظهر من معالم ما كانت تسمى أفغانستان، ذلك البلد الذي مرت عليه كافة مصائب العالم منذ الاجتياح السوفييتي له في عام 1978 وتعيين بابراك كارمل رئيساً، مروراً ب«القاعدة» و«طالبان» وصولاً إلى ما تبقى من أشلاء.
طبعاً البقاء الأمريكي في أفغانستان إلى ما لا نهاية ليس أمراً طبيعياً وليس مقبولاً بأي مقياس، لكن المنطق يقول بوجوب البحث عن حل لشعب وأرض ظلت سائبة لعقود طوال، وهي تستحق اليوم أكثر من مجرد مفاوضات في إسطنبول، هي بحاجة إلى مؤتمر دولي هدفه النهائي التوصل إلى حل حقيقي.